معنى الاستقامة
لغةً: الِاعْتِدَالُ، يقال: استقام له الأمر، ومصدر استقام مأخوذة من مادة (ق و م)، التي تدل على معنيين، أحدهما: جماعة من الناس، والآخر: اعتدال أو حزم، والمعنى الثاني هو المراد.
شرعًا: "هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك".
وقد عرفها الجرجاني بأنها: "الوفاء بالعهود كلها، وملازمة الصراط المستقيم برعاية حد التوسط في كل الأمور، من الطعام والشراب واللباس، وفي كل أمر ديني ودنيوي، فذلك هو الصراط المستقيم، كالصراط المستقيم في الآخرة".
الهداية كلُّ الهداية في الاستقامة
المسلم في كل يوم يسأل ربَّه أنْ يثبته على الصراط المستقيم في كل يوم سبع عشرة مرة فرضًا ما عدا السنن، لماذا؟ لأنَّ الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين، بينما الخط المعوج (غير المستقيم) أيًا كان شكله يزيد في المسافة، وهذه المسافة والتي لا بُدّ من قطعها بين الدنيا والآخرة، فمن استقام على أمر الله -سبحانه- والتزم أوامره وَصلَ بسلام في أقل وقت وجهد، ومن سار في هذه الحياة معوجًّا طال سفره ووصل متأخرًا وربما أضاع الطريق، من هنا نحرص على معنى ما نردّده كل يوم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6].
ورد في الحديث توضيحًا لهذا المعنى الكريم فيما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه-: أن النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطَّ خطًّا مستقيمًا، فقال: هذا سبيلُ اللهِ، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، وقال: هذه السبُلُ على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليه، ثم تلا هذه الآيةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]، [أخرجه أحمد والنسائي].
الإيمان والاستقامة
إذا وُجد الإيمان تحققت الاستقامة، وإذا فُقد الإيمان ضاعت الاستقامة، فهما متلازمان كل منهما يُفضي إلى الآخر، عن سفيان بن عبدالله الثقفي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، وفي حديث أبي أسامة: غيرك، قال: "قل: آمنتُ بالله، فاستقم" رواه مسلم.
ولذا بوَّب النووي عليه بـ: (باب جامع أوصاف الإسلام)؛ فالحديث شمل عمل القلب، وهو الإيمان، وعمل الجوارح، وهو الاستقامة؛ فهو شامل للظاهر والباطن، والحديث دليل على أنَّ جماع الخير في الاستقامة بعد الإيمان، ولأنَّ شأنها عظيم أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- لها حينما سأله عن شيء جامع، وجواب النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الموافق لقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13].
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال، والأحوال والنيات؛ فالاستقامة فيها وقوعها لله وبالله، وعلى أمر الله، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة".
من ثمرات الاستقامة
1- تتنزل على أهل الاستقامة السكينة:
قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت: 30]؛ فالملائكة تتنزل عليهم بالسرور والحبور والبشرى في مواطن عصيبة، قال وكيع وابن زيد: "البُشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث".
2- الطمأنينة والسكينة:
حيث قال -تعالى-: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30]؛ أي: لا تخافوا مما تُقدِمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا، وقال عطاء -رحمه الله-: "لا تخافوا ردَّ ثوابكم؛ فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم؛ فإني أغفرها لكم".
3- البشرى بالجنة:
فقال -تعالى-: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، وهذا هو الهدف الذي ينشده كل مسلم، نسأل الله من واسع فضله.
4- سَعة الرزق في الدنيا:
قال -تعالى-: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16]؛ أي: كثيرًا، والمراد بذلك سعة الرزق، وكما قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "أينما كان الماء كان المال".
5- الانشراح في الصدر والحياة الطيبة:
قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، ومَن جاء بالاستقامة فقد عمل أحسن العمل؛ فاستحقَّ الحياة الطيبة الهنية من الرزق الحلال والقناعة، والتوفيق إلى الطاعات التي تقودهم -بإذن الله- إلى أحسن الجزاء في الجنة.
قال أبو القاسم القشيري: الاستقامة درجةٌ بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصولُ الخيرات ونظامُها، ومن لم يكن مستقيمًا في حاله، ضاع سعيُه، وخابَ جُهدُهُ.
إذاً أحبتي من أراد النجاة يوم القيامة بأقل التكاليف وأقصر الطرق فليلزم الاستقامة على منهج الله وشرعه، وإذا ما التزمنا هذا المنهج القويم نكون قد رسَّخنا وحققنا هويتنا الإسلامية التي ندعو كل الخلق للسير وفْقَها واقْتِفاءِ أَثَرِها.