"جول فيرن"، روائي فرنسي عاش في القرن التاسع عشر ومات في العام الخامس من القرن العشرين، اشتهر بروايات الخيال العلمي، ومنها رواية "رحلة إلى مركز الأرض".
في هذه الرواية نجح أبطالها في الوصول إلى مركز الأرض، وقبل أن يعودوا أرادوا أن يتركوا أثرًا يدل على هذه الرحلة الفريدة، فتركوا نقشًا باللغة العربية، وعندما سُئل المؤلف عن سبب اختياره اللغة العربية دون غيرها في روايته، أجاب: لأنها لغة المستقبل.
هذه الشهادة التي أبداها الروائي الشهير بحق اللغة العربية، هي شهادة حق، يؤيدها توقعات اليونسكو باختفاء نصف لغات العالم المنطوقة مع نهاية القرن الواحد والعشرين، إذ أن 40% من البشر لا يتلقون التعليم بلغتهم الأم، كما أننا على يقين من أن المستقبل لهذه الأمة، ومن ثم فإن المستقبل للغتها الأم، لكننا مع ذلك نضم إلى شهادته كون اللغة العربية كذلك لغة الماضي، لغة الحضارة، لغة التراث، ذاكرة الأمة، ولا أخفي سرًا إن قلت بأنني لا أشارك الجميع فرحتهم باليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام، وهو ذكرى اليوم الذي اتخذت فيه الأمم المتحدة قرارها بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة، فكأن المجتمع الدولي تفضل على لغتنا بالاعتراف بها، على الرغم من كونها ركنًا ركينًا في التنوع الثقافي للبشرية، وإحدى اللغات الأكثر انتشارًا على الأرض، إذ يتحدث بها أكثر من 550 مليون إنسان.
أزمتنا الكبرى تتمثل في أننا لا نعرف قدر لغتنا، ولأن المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب كما يؤكد ابن خلدون، فإننا مع حياة الانهزامية التي نعيش فيها في مواجهة الغرب الذي احتل بلاد أمتنا لعقود طويلة، دخلنا جحر الضب خلفهم، وليتنا فعلنا في ميادين العلم والتكنولوجيا والتقنيات والاختراعات والاكتشافات العلمية، لكننا صرنا نقلدهم في عوائدهم، واختطفتنا حضارتهم لدرجة أننا أصبحنا نهتم بلغاتهم على حساب لغتنا، والتي صرنا ننظر إليها على أنها ركام ثقافي.
حق لكل ذي لسان عربي أن يفتخر بهذه اللغة الفريدة، فلقد صنفت المصنفات في خصائص وسمات اللغة العربية التي تمتاز بها عن غيرها من اللغات، فمن ذلك اتساع معجمها اللفظي، فتجد ألفاظًا عدة تعبر عن المعنى الواحد، وبذلك تتيح لمن يتكلم بها شجاعة وثباتًا، فإذا تعسر في كلمة أتى بما يرادفها، فلا يهاب فقدانها بالنسيان أو بالعجز عن نطق بعض الحروف.
فهي أغنى لغات العالم وفق تعبير المستشرق الألماني جورج فريتاغ، ففي حين لا تحتوي الفرنسية إلا على خمسة وعشرين ألف كلمة، تجد أن عدد الألفاظ المستعملة من اللغة العربية أكثر من خمسة ملايين وتسعة وتسعين ألف لفظ، من جملة ما يقارب ستة ملايين وسبعمائة ألف لفظ.
ومن خصائصها كما جاء في كتاب "القياس في اللغة العربية" لـ محمد الخضر حسين نقلًا عن المطران يوسف داود الموصلي "أنها أقرب لغات الدنيا إلى قواعد المنطق، بحيث أن عباراتها سلسلة طبيعية، يهون على الناطق صافي الفكر أن يعبر فيها عما يريده من دون تصنع وتكلف باتباع ما يدله عليه القانون الطبيعي"، وهي أكثر اللغات عذوبة وجمالًا وحسن تركيب، فما من كلام يعدل كلام العرب في عذوبته وحسن بيانه واختصاره وطريقة التأليف بين حروف الكلمة الواحدة، لذلك لدينا تراث ضخم من التراث العربي الرائع من شعر ونثر يفوق كل وصف.
أما الحديث عن سمات وخصائص اللغة العربية أكثر بكثير من أن يحيط به هذا المقام، لكن لابد من الإشارة إلى أن اللغة العربية منذ أن ارتبطت بالقرآن بعد نزول الإسلام، لم تعد لغة أمة العرب وحدهم، بل صارت لغة فكر وعقيدة وثقافة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
هذا الارتباط قد أكسبها صفة الخلود، لأنها ترتبط بأصل خالد وهو القرآن الكريم، الذي نزل باللسان العربي، حيث حافظ القرآن عليها من الاندثار، بما له من خاصية حفظ الله إياه من التحريف، وحماها من أن تتحول إلى لهجات مستقلة.
فاللاتينية التي كانت لغة روما القديمة وشبه الجزيرة الإيطالية قد انحدرت منها لغات مستقلة كالإيطالية والفرنسية والرومانية والإسبانية والبرتغالية، فكانت اللاتينية لغة العلم والدراسة في أوروبا الوسطى والغربية حتى القرن السابع عشر، لتحل محلها لغات محلية أخرى.
وحتى اللغات التي انحدرت منها يختلف حديثها عن قديمها، فالفرنسية السائدة اليوم ليست هي الفرنسية القديمة، وكذلك الألمانية، وكذلك الإنجليزية التي يتحدث بها الأستراليون والبريطانيون ليست الإنجليزية التي يتحدث بها الأمريكان.
هذا الترابط بين العربية والقرآن الذي حماها من الاندثار وكفل لها الانتشار، جعلها لغة لا تنقطع عن تراثها القديم، فيقرأ المرء أشعارًا ونصوص نثرية قديمة لا يحتاج في ذلك إلى قاموس، بينما يحتاج من يقرأ إلى أعلام الأدب الغربي إلى قاموس للترجمة، وذلك لأن اللغات الأوروبية قد انسحبت من اللاتينية إلى لهجات قومية فأصبحت لها لغاتها الخاصة بعد انقطاعها عن تراثها القديم.
إذن، اللغة العربية هي المعبرة عن هويتنا وحضارتنا، ومن ثم كانت محورًا للتنازع الحضاري، وتعرضت ولا تزال لمحاولات أجنبية لتجريفها وتهميشها وإقصائها من حياة أمتنا.
هذه المؤامرات على اللغة العربية ارتبطت بالاستعمار والاستشراق والتبشير والصهيونية، وارتبطت بدعاوى بها من التلبيس على الناس ما بها، فعلى سبيل المثال وضع اللورد دوفرين تقريرًا عام 1882 بعد أن احتلت بريطانيا مصر، هذا التقرير يدعو إلى معارضة العربية الفصحى والتي هي لغة القرآن، وتشجيع المصريين على اللهجة العامية واعتبارها حجر الزاوية في البناء الثقافي والتعليمي في مصر، وقال ما نصه: "إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصحى العربية كما هي في الوقت الحاضر"، فانظر كيف ربط بين التخلف وبين اللغة العربية بلا برهان، مع أنها نفس اللغة التي كانت لسان الحضارة الإسلامية التي أذهلت العالم في تقدمها وإنجازاتها.
وليست الدعوة إلى العامية وتشجيعها هي السبيل الوحيد لضرب لغة الضاد، بل كانت هناك دعوات أخرى لاستبدال الحرف العربي باللاتيني، فهي إن وجدت رفضًا في بعض الدول إلا أنها نجحت في أخرى، تركيا على سبيل المثال، كما جرت محاولات تعميم لغة وسطى تجمع بين الفصحى والعامية، إضافة إلى العمل على التحلل من أصول وقواعد اللغة العربية.
اللغة العربية في خطر، وبالتالي فهويتنا في خطر، لذلك لابد من تضافر الجهود في دعم اللغة والتحدث بها، وقد شرفت بالتعرف على مركز هويتي للحفاظ على الهوية الإسلامية، والمبادرة غير التقليدية التي أصدرها بعنوان "كلمني عربي في بلدي تتقدم لغتي"، والتي تلهم بأهمية التحدث باللغة العربية بين الأفراد وفي التجمعات، وحبذا لو تكررت هذه التجربة وكان هناك العديد من هذه المراكز المعنية بالهوية واللغة العربية.
يمكن تعزيز التحدث باللغة العربية من خلال عقد لقاءات دورية يتم فيها التحدث والنقاش بالعربية الفصحى، وتصحيح الأخطاء اللغوية عن طريق القائمين على اللقاء، وهذا أسلوب عملي ناجح في تقويم اللسان على العربية الفصحى، وهو أمر مجرب في اللغات الأخرى التي يدرسها أبناؤنا، حيث يتجه كثير من معلمي اللغة الإنجليزية مثلاً في المدارس والجامعات إلى التحدث بالإنجليزية بشكل كلي، ومع مرور الوقت يكتسب الطلاب سلامة النطق بها وإجادته، ولعلنا لا نتجاوز الممكن إذا قلنا بإمكانية عقد دورات تدريبية خاصة بالآباء والأمهات في اللغة العربية، بهدف دعمهم في التحدث مع أبنائهم وذويهم في المنازل باللغة الفصحى، لجعلها أمرًا أساسيًا في حياتهم، على الأقل داخل البيوت.
في الوقت نفسه، يمكن لمثل هذه المراكز المعنية بالهوية واللغة العربية، أن تنشئ رابطة لمعلمي اللغة العربية، تتمكن خلال التواصل معهم من دمجهم في هذا المسار، والتزام المعلم بالتحدث مع طلابه بالفصحى خلال الحصص المقررة مع التصحيح للأخطاء، وأيضًا الأدوات والوسائل التي ندعم بها اللغة العربية كثيرة، فقط نحتاج إلى إدراك أهميتها وخطورة تركها فريسة للمؤامرات الخارجية، ونحتاج إلى همم عالية تقوم بتفعيل المقترحات والتوصيات الخاصة بهذا الشأن، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بقلم: أ/إحسان الفقيه