تَفَقَّدوا قلوبكم

تَفَقَّدوا قلوبكم

-- د. أحمد عبدالقادر الفرجابي داعية إسلامي --

القلبُ مَلِكُ الجوارحِ، وبهِ يَكُونُ الصَّلاح، وبظلمتهِ وظلامهِ وبُعدِهِ عن ربّهِ يحصلُ الفسادُ والطَّلاح، قال رسولنا الكريم -صلَّى الله عليه وسلم-: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ» رواه البخاري ومسلم.

والصراعُ بيننا وبينَ عدونا الشيطان في رغبته بالسيطرة على هذا القلبِ، وأنتَ يا صاحبَ القلبِ كصاحبِ الرَّحى التي تدور بما يُلقى فيها، ويقفُ عند الرحى شيطانٌ وملك، وكأنَّ المَلَكَ يحملُ قمحًا وطيبات، أما الشَّيطانُ فيحمل كيس خبثٌ وفحمٍ وشُبُهات وشَهَوات، فإذا غَفَلَتَ يا صاحبَ الرحى تمكَّنَ الشَّيطانُ فألقى في الرحى ما في كِيسهِ من بعرٍ وفحمٍ وشرور وشُبُهات وشَهَوات، فدارت الرحى بما ألقَى فيها فيُصبِحُ صاحبُ الرحى ويُمسي وهو يُفكِّرُ في الشَهَوات والمعاصي والمُوبقات، أما إذا كنت يا صاحبَ الرحى يقظًا، ومكَّنَتَ للمَلَكِ إلقاءَ ما في كيسهِ من القمحِ والطَّيبات، فالرحى تدورُ بما يُلقى فيها، ويُصبِحُ صاحبها ويُمسي مُسابِقًا في الخيرات والصِّدقِ والإخلاصِ والصدقات، وكُلِّ مَا يَجْلِبُ رِضْوانَ ربِّ الأرضِ والسَّماوات.

ولعلَّ السؤال المهم هو: كيف يحرسُ صاحبُ الرحى رحاهُ وقلبهُ؟ -وقد شبَّهَ ابن القيم في هذا المثل القلب بالرحى-، وهذا السؤالُ أَزْعَجَ العُقَلاء والفضلاء؛ لأنَّ القلبَ يَتَقَلَّبُ وهُوَ أَشَدُّ في تقلُّبِهِ مِنْ القِدْرِ إذا استجمعَ الغليان، بل الأَمْرُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :

مَا سُمِّيَ القلبُ قلبًا إلا مِنْ تَقَلُّبِهِ ** فاحذر على القلبِ مِنْ قَلبٍ وتَحْوِيلِ

والسَّبَبُ الثاني لخوفِ العُقَلاء هُوَ حِرصُ عدونا الشَّيطان على الإغواءِ واستخدامه للأسلِحةِ النَّافِذَة، والتي مِنْ أخطَرِها البَصَرُ.

والنَّظَر سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهْامِ إبليس، والسَّهْمُ المَسْمُومُ يُسمِّمُ البَدَنَ، والنَّظْرَةُ المُحرَّمة تُسمِّمُ القلب، كَمَا أنَّ مِنْ أسلِحتِهِ السَّمْع وكافَّةِ الحواس.

بل إنَّ عدونا الشَّيطان يستشرف الْمَرْأَةَ إذا خَرَجَتْ وتبرَّجت ليفتنها ويفتِنُ بها، بالإضافَةِ إلى حِرصِ الشَّيطانِ على التغيير المُسْتَمِر لخططهِ وحيله، وتعاونه على ذلك نُفوس أمَّارَةٌ بالسُّوءِ، وأعوانٌ لَهُ مِنْ شياطين الإِنْسِ والجِنِّ قال -تعالى-: ﴿يُوحِي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرورًا﴾ [الأنعام: ١١٢].

ولَكِنَّ الشَّيطانُ الرَّجيم يَنْفِرُ مِنْ الأذانِ لما فيه من توحيد وذكرٍ وإخلاص، ولا يَدْخُلُ إلى بُيُوتٍ تُتْلى فِيها سُورَة البقرة ويواظبُ أهْلُها على الأذكارِ والأدعيةِ والقرآن.

وتعتبرُ عِمارةُ الدورِ بالأذكار ِخطَّ دفاعٍ أول ضد الشَّيطان، وسبب مُهِم لحفظِ الرحى التي هي القلب من هَمْزِهِ ونَفْخِهِ ونَفْثِه.

والعاقلُ يحرِصُ على التسلّحِ بالتوحيدِ الخالص، ويتدثَّرُ بالمراقبةِ لله والاستعانةِ به –سبحانه-، ويُوقن بأنَّ ربنا العظيم لا ينظُرُ إلى صورنا، ولا إلى أجسادنا، ولا إلى أموالنا، وإنما ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، وإذا كانَ القلبُ هو موطنُ نَظرِ ربنا العظيم فالحذرُ كُلَّ الحذر أنْ يكون فيهِ سِواه -سبحانه-، فالعظيمُ الكريم يغارُ على قلوبِ أهْلِ الإيمَانِ أنْ يكون فيها سِوى توحيدهِ وحبهِ وتقواه، وهو -سبحانه- أغنى الشركاءِ عن الشرك.

ولا بُدَّ أنْ يحرصَ أَهْلُ الإيمَانِ على تفقُّدِ قُلُوبِهِمْ للتأكدِ من سلامتها من الشركِ والرياء والعجب والغرور وغيرها من المفسدات التي سماها الشوكاني -رحمه الله-: (الأصنام الخفية).

وكلمةُ (تفقُّد) تفيد التكرار واليقظة والمتابعة لأنَّ العدو يقفُ خارجَ الحصنِ يَنْتَظِرُ غَفْلَةَ الحُرَّاسِ أو نومهمْ حتى يقتحم الحصن الذي فيه القلب، فإن تمكَّنَ فإيعادٌ بالشرِ وإبعادٌ عن الخير، وليتَ من يهتم بظاهرهِ يضاعفُ الاهتمامَ بقلبهِ وباطنه، وليتَ من ينزعجُ من الآلامِ العضويةِ في جسدهِ ويسافرُ هنا وهناك بحثًا عن العلاج ينزعج أكثر من مرضِ الغفلة إذا أصاب قلبه أو من القسوةِ إذا تمكَّنت منه.

وفي الختامِ نسألُ مُقَلِّبَ القلوبِ أنْ يُصرِّفَ قلوبنا إلى طاعتهِ وتوحيدهِ، وأنْ يُعيننا على تغيير ما في نفوسنا ليغير ما بنا، والبشرى لمن صدقَ في نيتهِ في التغيير، قال الله -عزَّ وجل-: ﴿إِنْ يَعلَمِ اللَّهُ في قُلوبِكُم خَيرًا يُؤتِكُم خَيرًا﴾ [الأنفال: ٧٠].

فاجتهدوا إخواني وأخواتي، واعْلمُوا أنَّ الطريقَ إلى الله يُقْطَعُ بالقلوبِ لا بالأقدام، وأنَّ مَنْ يُقبلُ بقلبهِ على الله يجعلُ الله -سبحانه- قلوبَ عبادهِ تُقْبِلُ عليه، والفلاحُ لمن أتَى الله بقلبٍ سَليم.