يعجبني قول سيد قطب -رحمه الله- حيث قال: "ولقد انتصر محمد بن عبد الله ﷺ يوم أن صاغ من فكرة الإسلام شخوصًا، ثم حوَّل إيمانهم بالإسلام عملًا، ثم نسخ من المصحف عشرات الآلاف من النسخ، ولكن لم ينسخها من مداد الحبر على الورق، وإنما نسخها بمداد من النور على القلوب، ثم تركهم يتعاملون مع الناس فيأخذون ويعطون، فيراهم الناس فيرون الإسلام من خلالهم".
كثيرًا ما أتذكرها عندما أرى تصرفًا خاطئًا يصدر من المسلمين بشكل عام، وأتفكر في شخص الرسول ﷺ، هذا النبي الخاتم الذي أثنى عليه ربُّه في آيات تُتلى إلى قيام الساعة، حيث قال -عزَّ وجلَّ-: ﴿لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ ﴿١٢٨﴾ [سورة التوبة]، وقال -تعالى-: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿٤﴾ [سورة القلم]، وقال -تعالى-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴿١٠٧﴾ [سورة الأنبياء].
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: كيف استطاع الرسول ﷺ أن يقيم دولة إسلامية عظمى، بسطت نورها على الخليقة في بضع سنوات قليلة لا تُذكر في عمر الزمن؟ ونحن نعجز أن نربي أبناءنا الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثة أو أربعة في أكثر من عشرين عامًا! لقد كان النبي ﷺ المربِّي الأول، الذي استطاع أن ينشئ جيلًا متميزًا فريدًا، لم تشهد البشرية بمثاليته وامتثاله، وكانت تلك التربية الفريدة تنتهج خطوات واضحة لا تخفى على من تتبع سيرة الحبيب ﷺ، بل إنها منارات يهتدي بها المربون والمعلمون من بعده ﷺ.
أذكر منها:
أولًا: ربَّاهم ﷺ على العقيدة:
العقيدة الصحيحة هي الأساس الذي يقوم عليه الدين، وتصح معه الأعمال، إذا فسدت العقيدة فلا صلاح ولا فلاح ولا نجاح، فهي كما قال -تعالى-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿٢﴾ أَلَا لِلَّـهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴿٣﴾ [سورة الزمر]، فلم يربهم -صلوات ربِّي وسلامه عليه- على أنَّ هذا عيب، وهذا لا يجوز، وهذا مخالف لعُرف الناس، ولم يتساهل في أمور التوحيد والعقيدة، عظَّم في قلوبهم الخالق، فكان -سبحانه- غايتهم ومرادهم، عن ابن عباس -رضي الله عنه-: "أنَّ رجلًا قال للنبيّ ﷺ: ما شاء اللهُ وشئتَ، فقال لهُ النبيُّ ﷺ: أجعلتني للهِ عدلًا بل ما شاء اللهُ وحدَهُ"، هنا تتجلى التربية النبوية في تعظيم الخالق، "فأنْكَرَ النَّبيُّ ﷺ على الرَّجُلِ هذا القولَ، وقال له: "أَجَعَلْتَني للهِ نِدًّا"، أي: شَريكًا مُساوِيًا له، ثم بيَّن له النَّبيُّ ﷺ ما يقولُه، فقال له: "ما شاءَ اللهُ وحدَهُ"، وفي روايةِ أحمدَ: "أجعَلتَني واللهَ عِدلًا ، بلْ ما شاءَ اللهُ وحْدَه"؛ لأنَّه -سُبحانَه وتَعالى- لا شَريكَ له في مُلْكِهِ، وهذه كَلِمةٌ فيها تَفْويضُ الأَمْرِ إلى اللهِ.
وفي هذه التربية يتضح أنَّه على المسلمِ أنْ يُراعيَ في كلامِه ما يَتناسَبُ مع عَقيدةِ التَّوحيدِ الخالصِ ".
مكث النبي ﷺ في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى التوحيد، وكان أصحابه -رضوان الله عليهم- قد رضعوا العقيدة منذ ولادتهم في أحضان الإسلام، ففتحوا أعينهم على نور التوحيد الخالص، وأساس الدين الصحيح، فالعقيدة عندهم هي المؤثرة في حياتهم عملًا وسلوكًا وأخلاقًا.
وقد كان ﷺ يوضح الطريق وينير السبيل، فلا تفوته الفرص، ولا تخطئه الوقائع، لأنَّ التربية مواقف وعبر.
ثانيًا: ربَّاهم ﷺ على محبة الله -عزَّ وجلَّ-، ورسوله ﷺ:
محبة الله -تعالى- ورسوله ﷺ واجبة: قال -تعالى-: ﴿قُل إِن كانَ آباؤُكُم وَأَبناؤُكُم وَإِخوانُكُم وَأَزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم وَأَموالٌ اقتَرَفتُموها وَتِجارَةٌ تَخشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرضَونَها أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّـهِ وَرَسولِهِ وَجِهادٍ في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصوا حَتّى يَأتِيَ اللَّـهُ بِأَمرِهِ وَاللَّـهُ لا يَهدِي القَومَ الفاسِقينَ﴿٢٤﴾ [سورة التوبة].
حُبّ رسول الله ﷺ من أركان الإيمان، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن والِدِهِ ووَلَدِهِ والنَّاسِ أجْمَعِينَ "
أبو بكر الصدِّيق -رضي الله عنه- عندما علِم أنَّ الله -تعالى- أذن للنبي ﷺ بالهجرة، قال: "الصحبة يا رسول الله"، كان أبو بكر -رضي الله عنه- يُدرك تمامًا أنَّ هجرته مع الرسول ﷺ تُعرِّضه للموت، لأنَّ قريشًا لن تترك النبي ﷺ يخرج وينشر الإسلام، بل ستسعى جهدها لقتله، وأعدت مئة من الإبل جائزة لمن يأتي بمحمد ﷺ حيًّا أو ميِّتًا، وهاجر -رضي الله عنه- مع النبي ﷺ ، ومن أراد أن يرى صور التضحية والفداء، فليتتبع كتب السيرة النبوية التي حكت المواقف العظيمة للصدِّيق -رضي الله عنه-.
عن عبد الله بن هشام -رضي الله عنه-: "كُنَّا مع النَّبيِّ ﷺ وهو آخِذٌ بيَدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فَقالَ له عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ، فَقالَ له عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ ﷺ: الآنَ يا عُمَرُ "، استجابة تامة وسريعة، لأنَّ حب النبي ﷺ يسري في عروقهم، وينشأ عليه أطفالهم.
عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، كيفَ تَقُولُ في رَجُلٍ أحَبَّ قَوْمًا ولَمْ يَلْحَقْ بهِمْ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: المَرْءُ مع مَن أحَبَّ ".
ففرح الصحابة -رضوان الله عليهم- بهذا الحديث، لأنهم يحبون الرسول ﷺ، ويرغبون بمرافقته في الجنة، فقد ملك حبه شغاف قلوبهم، حتى ما كان الرجل يطيق أن لا يرى النبي ﷺ يومًا.
عن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: "كنْتُ أبِيتُ مع رَسولِ اللهِ ﷺ فأتَيْتُهُ بوَضُوئِهِ وحَاجَتِهِ فَقالَ لِي: سَلْ فَقُلتُ: أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. قالَ: أوْ غيرَ ذلكَ قُلتُ: هو ذَاكَ. قالَ: فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ "، كان -رضي الله عنه- يخدم النبي ﷺ، ويضع له وضوءه، وكان فقيرًا، ومع هذا فإنَّه لم يطلب شيئًا من نعيم الدنيا الزائل، إنما طلب الأغلى والأبقى، وهو أن يجتمع مع النبي ﷺ، لأنَّ الرسول ﷺ ربَّاهم على أن تكون غايتهم أعظم الغايات، وهي الجنَّة وما فيها من نعيم، وأعظمه رؤية الله -تعالى-. "اللهم بلغنا".
ثالثًا: ربَّاهم ﷺ على السمع والطاعة:
لقد كان من الطبيعي أنَّ التربية على المحبَّة تستلزم السمع والطاعة، وكما يقال: إنَّ المحب لمن يحب مطيع، فالنبي ﷺ كان يعاملهم بالود واللين والرأفة، يسأل عن أحوالهم، ويتفقد غائبهم، تعلقت القلوب به ﷺ، وكانوا يتسابقون في خدمته، فعن ابن شهاب قال: "أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: -وهو الذي مَجَّ رَسولُ اللَّهِ ﷺ في وجْهِهِ وهو غُلَامٌ مِن بئْرِهِمْ وقَالَ عُرْوَةُ-، عَنِ المِسْوَرِ، وغَيْرِهِ يُصَدِّقُ كُلُّ واحِدٍ منهما صَاحِبَهُ: وإذَا تَوَضَّأَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ علَى وَضُوئِهِ" .
عن عقبة بن نافع -رضي الله عنه- "أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأبِي إهَابِ بنِ عَزِيزٍ، فأتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقالَتْ: قدْ أرْضَعْتُ عُقْبَةَ والَّتي تَزَوَّجَ، فَقالَ لَهَا عُقْبَةُ: ما أعْلَمُ أنَّكِ أرْضَعْتِنِي، ولَا أخْبَرْتِنِي، فأرْسَلَ إلى آلِ أبِي إهَابٍ يَسْأَلُهُمْ، فَقالوا: ما عَلِمْنَا أرْضَعَتْ صَاحِبَتَنَا، فَرَكِبَ إلى النَّبيِّ ﷺ بالمَدِينَةِ، فَسَأَلَهُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: كيفَ وقدْ قيلَ؟! فَفَارَقَهَا ونَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ"، هذه هي الطاعة والمحبة للنبي ﷺ، التي تربَّى عليها هذا الجيل المبارك، لأنَّ طاعته ﷺ عبادة، ومحبته عبادة، ولأنَّ الغاية عندهم الفوز بالجنَّة.
ومن عظيم أثر التربية في النفوس وسرعة الاستجابة أنَّه كان ﷺ إذا أمرهم بأمر أو نهاههم عن غيره بدأ بنفسه، فعندما أمرهم ﷺ بحفر الخندق، كان أول من بدأ بحفره ﷺ، وعندما أمرهم بالصدقة كان أول من يتصدَّق، لأنَّ المتعلم يتعلم بما يرى أكثر مما يسمع.
قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم