صناعة العظماء (2)

صناعة العظماء (2)

-- كوثر سامي عبد الرحيم التايه --

رابعًا: ربَّاهم على معالي الأمور وعلو الهمة:

لقد ربَّى النبي أصحابه -رضي الله عنهم- ليكونوا مؤمنين ربَّانيين، لم يكن ليمنيهم بدنيا فانية، ومتعة بالية، ولذة لا بقاء لها، بل كان حاله ومقاله تبايع على السمع والطاعة بكل ما جاء به الدين.

لم يجعل من بعده خليفة له، فلم يمنِ أبا بكر -رضي الله عنه- بالخلافة، ولم يعد الفاروق بها، ولا خص قرابته فيها، ترك الأمر للمسلمين، لأنَّه كان يعلم أنَّ صحابته -رضوان الله عليهم- غايتهم الله، وصلاح الأمة، فنفوسهم متعلقة بأسمى الغايات، وأعظم المطالب وأعلاها، لن يتهافتوا على الخلافة، ولن يتقاتلوا لدنيا فانية، إنما هو ثبات على ما كان عليه الرسول .

ربَّاهم على الهِمَّة التي ترفع بهم إلى أعلى الأمور وأسماها وأطهرها، إلى الجنَّة وما فيها من النعيم، وأعظمه رؤية الله -تعالى- فيها، عَنِ الضَّحَّاكِ الْمَعَافِرِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ، أَنَّهُ سَمِعَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "أَلَا هَلْ مُشَمِّرٌ لِلْجَنَّةِ؟ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لَا خَطَرَ لَهَا هِيَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ، وَقَصْرٌ مَشِيدٌ، وَنَهْرٌ مُطَّرِدٌ، وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ، وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، وَمَقَامٌ فِي أَبَدٍ فِي دَارٍ سَلِيمَةٍ، وَفَاكِهَةٌ، وَخُضْرَةٌ، وَحِبَرَةٌ، وَنِعْمَةٌ فِي مَحِلَّةٍ عَالِيَةٍ بَهِيَّةٍ، قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ الْمُشَمِّرُونَ لَهَا، قَالَ: "قُولُوا: إِنْ شَاءَ اللَّهُ". قَالَ الْقَوْمُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ "

خامسًا: يحضهم على الاجتهاد في الطاعة:

لقد كان يحرص دائمًا على أن يربِّي أصحابه على الاتصال بخالقهم والتزام أمره، ففيها عزة المسلم وثباته، وفيها الدافع للتسابق في الخيرات، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله سأل: "مَن أصْبَحَ مِنْكُمُ اليومَ صائِمًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: أنا، قالَ: فمَن تَبِعَ مِنْكُمُ اليومَ جِنازَةً؟ قالَ أبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: أنا، قالَ: فمَن أطْعَمَ مِنْكُمُ اليومَ مِسْكِينًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: أنا، قالَ: فمَن عادَ مِنْكُمُ اليومَ مَرِيضًا؟ قالَ أبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنْه-: أنا، فقالَ رَسولُ : ما اجْتَمَعْنَ في امْرِئٍ، إلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ ".

وكان -صلوات ربِّي وسلامه عليه-، أشدهم عبادة، وأكثرهم خشية، وأعظمهم تقوى، فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ كانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هذا يا رَسولَ اللَّهِ، وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ؟ قالَ: أفلا أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا، فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ ".

وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يرون قدوتهم وحبيبهم في المقدمة في عبادة الله -تعالى-، حياته ومماته لله -عزَّ وجلَّ-، ومع حبهم الشديد لهم، كان قدوة ونبراسًا وهاديًا يتبعون خطاه وطريقته التي أخذت بقلوبهم وأحيتها من خراف الجالهلية والوثنية، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: "أنَّ رَسولَ اللهِ أُفْرِدَ يَومَ أُحُدٍ في سَبْعَةٍ مِنَ الأنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِن قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ، قالَ: مَن يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الجَنَّةُ؟ أَوْ هو رَفِيقِي في الجَنَّةِ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا، فَقالَ: مَن يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الجَنَّةُ؟ أَوْ هو رَفِيقِي في الجَنَّةِ، فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَاتَلَ حتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذلكَ حتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ: ما أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا ".

حديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رجل للنبي يوم أُحد: "أرأيتَ إن قُتلتُ فأين أنا؟ قال: في الجنة، فألقى تمرات كُنّ في يده، ثم قاتل حتى قتل "، فسارع الصحابي -رضي الله عنه- إلى جنَّة عرضها السماوات والأرض، فهنيئًا لهم هذه الهمم التي عانقت السحاب.

سادسًا: ربَّاهم على الشجاعة والإقدام:

تربيته لأصحابه على الشجاعة والعزَّة لله ولرسوله، والتربية عنده شجاعة في موضع الشجاعة، والحلم والأناة في موضعما، والعطف والرأفة في موضعهما، وهكذا كانت المواقف تُخرج المعادن الأصيلة في هؤلاء العظماء.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "غَابَ عَمِّي أَنَسُ بنُ النَّضْرِ عن قِتَالِ بَدْرٍ، فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، غِبْتُ عن أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ ما أَصْنَعُ، فَلَمَّا كانَ يَوْمُ أُحُدٍ وانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وأَبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ -يَعْنِي المُشْرِكِينَ-، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، فَقالَ: يا سَعْدُ بنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ، إنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِن دُونِ أُحُدٍ، قالَ سَعْدٌ: فَما اسْتَطَعْتُ يا رَسولَ اللَّهِ ما صَنَعَ، قالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا به بِضْعًا وثَمَانِينَ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ، أَوْ طَعْنَةً برُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بسَهْمٍ، ووَجَدْنَاهُ قدْ قُتِلَ وقدْ مَثَّلَ به المُشْرِكُونَ، فَما عَرَفَهُ أَحَدٌ إلَّا أُخْتُهُ ببَنَانِهِ، قالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى -أَوْ نَظُنُّ- أنَّ هذِه الآيَةَ نَزَلَتْ فيه وفي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [سورة الأحزاب]، إلى آخِرِ الآيَةِ. وَقالَ: إنَّ أُخْتَهُ -وهي تُسَمَّى الرُّبَيِّعَ- كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ، فأمَرَ رَسولُ اللَّهِ بالقِصَاصِ، فَقالَ أَنَسٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا. فَرَضُوا بالأرْشِ، وتَرَكُوا القِصَاصَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ : إنَّ مِن عِبَادِ اللَّهِ مَن لو أَقْسَمَ علَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ".

وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يُسارعون في ميادين الشجاعة، فهم روادها وعظماؤها، عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: "لما كانَ يومُ أُحُدٍ وولَّى الناسُ كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في ناحيةٍ في اثنَي عشرَ رجلًا من الأنصارِ، وفيهِم طلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ، فأدركَهم المشركونَ، فالتفتَ رسولُ اللهِ وقالَ: مَن للقومِ؟ فقالَ طلحةُ: أنَا. قالَ رسولُ اللهِ : كمَا أنتَ، فقالَ رجلٌ مِن الأنصارِ: أنَا يا رسولَ اللهِ، فقالَ: أنتَ، فقاتلَ حتى قُتلَ، ثمَّ التفتَ فإذا المشركونَ، فقالَ: مَن للقومِ؟ فقالَ طلحةُ: أنَا، قالَ: كما أنتَ، فقال رجلٌ مِن الأنصارِ: أنَا، فقال: أنتَ، فقاتلَ حتَّى قُتلَ، ثمَّ لمْ يزلْ يقولُ ذلكَ ويخرجُ إليهِم رجلٌ مِن الأنصارِ ، فيُقاتِلُ قتالَ مَن قَبلَه حتَّى يُقتَلَ، حتَّى بَقِيَ رسولُ اللهِ وطلحةُ بنُ عبيدِ اللهِ، فقال رسولُ اللهِ : مَن للقومِ؟ فقالَ طلحةُ: أنَا، فقاتلَ طلحةُ قِتالَ الأحدَ عشَرَ حتَّى ضُرِبَت يدُه فقُطعَت أصابعُه فقال: حَسِّ، فقالَ رسولُ اللهِ لو قلتَ بسمِ اللهِ لطارَت بكَ الملائكةُ والناسُ ينظرونَ إليكَ، ثمَّ ردَّ اللهُ المشركينَ "، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- كلما ذُكر يومَ أُحد قال: "ذاك يومٌ ذهب به طلحة"، وفي هذا تعظيم وتقدير الصحابة بعضهم لبعض، وتنافس في الخير والمسابقة في الطريق إلى الله.

لقد كانت مواقف النبي المثل، ومحط النظر، فهو شجاع في موطن الشجاعة، قوي في موطن القوة، رحيم رفيق في موطن الرفق، فصلوات ربِّي وسلامه عليه.