سمعنا ورأينا عن الكاميرا السرية -الخفية- التي قد يستخدمها البعض في بيوتهم لمراقبة الخادمات، أثناء بقائهم في البيت بمفردهم أو مع الأطفال، وقد رأى البعض ما لا يخطر على بال من تصرف الخادمات! وهي اليوم منتشرة في كثير من الأماكن لضبط الأمور، ومعرفة ما كان عند الحاجة.
ولو فكَّر بعض الإداريين في استخدامها لمراقبة الموظفين وأعلمهم أنَّ هناك كاميرا ستنقل حركاتهم وتصرفاتهم، لكانوا أشد حرصًا على تنفيذ ما عليهم، حتى لو لم تصل عيونهم لمكان تلك الكاميرا المزعومة!
وهنا يحقّ لنا أن نتساءل.. لماذا يتجاهلُ الكثير مراقبة الله -تعالى- له، ومحاسبته على كلامه وأفعاله؟ وكيف وأنَّ عظمته -سبحانه- وقدرته وعلمه تتجلَّى على معرفة السر وأخفى، فهو -سبحانه- يعلم سرَّنا ونجوانا، ويعلم ويرى خائنة الأعين، ويعلم خطرات النفس، ومراد القلب، فهو العظيم في جبروته وقدرته وعلمه، إنَّه الواحد الأحد ربّ الشهود، الواحد المعبود، قال -تعالى-: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿٥٣﴾ (سورة فصلت)، قال -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّـهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴿٥﴾ [سورة آل عمران].
ولن يقف الأمر عند هذا فحسب، قال -تعالى-: ﴿وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ وَسَتُرَدّونَ إِلى عالِمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ ﴿١٠٥﴾ [سورة التوبة]، فقد أخبرنا ربُّ العزة عن (يوم الجمع) يجمعنا -تعالى- فيه جميعًا للحساب، قال -تعالى-: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿٩﴾ [سورة التغابن]، تُعرَض علينا صحائف أعمالنا، التي لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّـهُ وَنَسُوهُ وَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿٦﴾ [سورة المجادلة]، ونجد أعمالنا حاضرة في كتابٍ، لا يضل ربِّي ولا ينسى، قال -تعالى-: ﴿في كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبّي وَلا يَنسَى﴿٥٢﴾ [سورة طه].
عندما تموت سيطوى كتابك، ولكنك سوف تلتقي معه عندما تخرج من قبرك، وسوف تُعْطَى هذا الكتاب الذي كتبته عليك الملائكة في الدنيا، وسوف يأمرك الله -جلَّ وعلا- بأن تقرأه عندما تقف بين يديه، قال -تعالى:- ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلزَمناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ وَنُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيامَةِ كِتابًا يَلقاهُ مَنشورًا ﴿١٣﴾ اقرَأ كِتابَكَ كَفى بِنَفسِكَ اليَومَ عَلَيكَ حَسيبًا ﴿١٤﴾ [سورة الإسراء].
بل وتشهد علينا الجوارح التي هي من نعم الله علينا: اليدان، والقدمان، واللسان، والعينان، والأذنان، بل وسائر الجلود.. ستأتي يوم القيامة لتشهد علينا، إنه مشهد لا مثيل له يقف العبد أمام ربِّه ويبدأ الحساب، ثم تبدأ الجوارح لتكشف الأسرار، ولتخبر بالفضائح والجرائم التي فعلتها في أيامك السابقة، قال -تعالى-: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿٦٥﴾ [سورة يس].
وسوف تشهد علينا هذه الأرض التي نمشي عليها، ونأكل عليها، وننام عليها، ومنَّا من يعصي الله عليها، هذه الأرض لها يوم ستتحدث فيه وتتكلم فيه بما عملت عليها -يا عبد الله- سوف يأتي اليوم الذي تفضحك فيه وتكشف أسرارك، ولعلَّك تقول: ما هو الدليل على أنَّ الأرض ستشهد يوم القيامة؟ قال -تعالى-:﴿وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴿٢﴾ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ﴿٣﴾ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴿٤﴾ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴿٥﴾ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿٦﴾ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾ [سورة الزلزلة]، فيوم القيامة تخبر الأرض بما عُمِلَ عليها من خيرٍ أو شرٍّ، وبأنَّ الله -سبحانه وتعالى- أمرها بأن تخبر بما عُمل عليها، يومئذ يرجع الناس عن موقف الحساب أصنافًا متفرقين؛ ليريهم الله ما عملوا من السيئات والحسنات، ويجازيهم عليها، هذا شامل عام للخير والشرِّ كله، لأنَّه إذا رأى مثقال الذَّرة، التي هي أحقر الأشياء، (وجُوزيَ عليها)، فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى ، كما قال -تعالى-: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّـهُ نَفْسَهُ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿٣٠﴾ [سورة آل عمران].
وهذه الآية فيها غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلًا، والترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا.
في قوله -تعالى-: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قرأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذه الآيةَ: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)، قال: أتدرونَ ما أخبارُها؟ قالوا: اللهُ ورسولُهُ أعلَمُ، قال: فإنَّ أخبارَها أنْ تشهَدَ على كلِّ عبدٍ وأَمَةٍ بما عمِلَ على ظَهرِها، تقولُ: عمِلَ يومَ كذا: كذا وكذا؛ فهذه أخبارُها ".
وعجبًا لأمر الإنسان أن يغفل عن هذه الحقائق العظمى، التي عليها مدار الفلاح في الدنيا والآخرة، فكيف له الغفلة في ذلك اليوم؟!
أيها الإنسان لو كان تحتك موظف أو خادم، أو عامل، -وهذا الشخص مهما كان فهو ليس عبدًا عندك-، فلا فضل عليك بما عنده من النِعم، ولكن لو أنَّك راقبته ووجدت منه ما لا يعجبك، فمن الطبيعي أن يكون لك ردة فعل، ولو بالتهديد أو بالطرد وما شابه، وأنت تماثله بالإنسانية، ولا مزية لك عليه، لأنَّ التفاوت في التقوى، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿١٣﴾ [سورة الحجرات]، وهذه علمها عند الله علَّام الغيوب.
فكيف نحن الضعفاء الفقراء إلى الله، حياتنا وحركاتنا وسكناتنا وكل ما نملك، هو من فضل الله علينا، فلنتنبه أنَّ العاصي الذي يخالف أمر الربِّ العظيم، ويتبع هواه، وتغره الدنيا وزينتها، فهو في هذا كله، إنما يستخدم نِعم الله التي لا تعد ولا تُحصى، هي ليست نعمة واحدة، بل هي نِعَم لا يمكن عدّها ولا إحصاؤها، فمن ينظر إلى ما حرَّم الله -تعالى-، فإنما يستخدم نعمة النظر، ومن يسعى بقدمه للمحرمات، فهو يسعى بنعمة الأقدام، ولا يمكن عدّ النِعم، فهناك من النِعم التي في أجسادنا ما زال يكتشفها العلم الحديث في خلق الإنسان، وكلُ هذه النِعم سوف يُسْأَلُ عنها العبد، (كُلُّ أُولـئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا)، وتذكَّر أيها العبد أنَّ الله حباك نِعَمًا قد منعها عن غيرك، أهكذا يكون شكر النعمة؟!
وإنَّ من أكبر أسباب ضعفنا وتقصيرنا هو الغفلة عن مراقبة الله -سبحانه وتعالى-، فإنَّ مراقبة الله والخوف منه عبادة من أجلِّ العبادات التي أصبحت مهجورة في حياة كثير من الناس -إلا من رحم الله-، فأصبح الفرد منَّا يراقب المخلوق وينسى الخالق، فالعامل يراقب مسئوله وإلا لما أتقن عمله..، والطالب يراقب المعلم حتى لا يراه إذا غش من زميله، والخادم يراقب سيّده فإذا غاب عنه سُل عليه الذنب، ... واللص والمجرم لا يهمه نوع الجريمة وخطرها على المجتمع إنما كيف يستطيع أن يقوم بجريمته دون أن يترك أثرًا يدل عليه، قال -تعالى-: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴿٧﴾ [سورة البلد]، قال -تعالى-: فلو أنَّ العبد الذي يخلو بذنوبه، ويتخفَّى من الناس، لو جعل مراقبته لله -تعالى- الذي يعلم السر وأخفى، لما تجرأ على المعصية، لأنَّه يعلم لما فعل تلك الفعلة السيئة، ولكنه غفل عن الله، فتمادى في الشهوات، قال -تعالى-: ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّـهَ يَرَى ﴿١٤﴾ [سورة العلق].
قال الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسـبنَّ الله يغـفـل ساعـة *** ولا أنَّ ما تُخفي عـليه يغـيب
هل عَلِم من يعصي الله في الخلوات، وعند غياب أعين الناس عنه، أنَّ ما يفعله هو أشد من الذنب نفسه، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "يا صاحب الذنب لا تأمن فتنة الذنب وسوء عاقبة الذنب، ولما يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا علمت، فإن قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وضحكك وأنت لم تدر ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب".
<والله -سبحانه- الكريم المتعال يجازي من يتقه، ويعلم أنَّ الله -تعالى- يراه ويراقبه، فمن اتقى الله -تعالى- في السرِّ، كشف عنه كربه إذا حلَّ به، ويُخرجه من كل ضيق، قال -تعالى-: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴿٢﴾ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴿٣﴾ [سورة الطلاق]./p>
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال رسول الله ﷺ: "بينما ثلاثةُ نفرٍ يمشونَ أخذهمُ المطرُ، فآووا إلى غارٍ في جبلٍ، فانْحطَّتْ على فمِ غارِهم صخرةٌ من الجبلِ فانطبَقتْ عليهم، فقال بعضُهم لبعضٍ: انظروا أعمالًا عمِلْتُموها صالحةً للهِ، فادعوا بها لعلَّه يُفرِّجُها عنكم، فقال أحدُهم: اللهمَّ إنَّه كان لي والدانِ شيخانِ كبيرانِ وامرأتي، ولي صبيةٌ صغارٌ أرعى عليهم، فإذا أرَحْتُ عليهم حلبتُ، فبدأتُ بوالدي فسقيتُهما قبلَ بَنِيَّ، وإن نأى بي ذاتَ يومٍ الشجرَ فلم آتِ حتى أمسيتُ فوجدتُهما قد ناما، فحلبتُ كما كنتُ أحلبُ، فجئتُ بالحلابِ، فقمت عند رؤوسِهما، أكره أنْ أوقظَهما من نومِهما، وأكره أنْ أُسْقي الصبيةَ قبلَهما، والصبيةُ يتضاغونَ عند قدمي، فلم يزلْ ذلك دأْبي ودأبَهم حتى طلع الفجرُ، فإنْ كنتَ تعلمُ أني فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجْهِك فافْرُج لنا فرجةً نرى منها السماءَ، ففرَّجَ اللهُ منها فرجةً فرأوا منها السماءَ. وقال الآخرُ: اللهمَّ إنه كانتْ لي ابنةُ عمٍّ، أحببتُها كأشدِّ ما يُحبُّ الرجالُ النساءَ، وطلبتُ إليها نفسَها فأَبتْ حتى آتيها بمائةِ دينارٍ، فتعبتُ حتى جمعتُ مائةَ دينارٍ، فجئتُها بها، فلمَّا وقعتُ بين رجْلَيْها، قالتْ: يا عبدَ اللهِ اتقِّ اللهَ ولا تفتحِ الخاتَمَ إلا بحقِّه، فقمتُ عنها، فإنْ كنتَ تعلمُ أني فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجْهِك فافْرُجْ لنا منها فرجةً، ففرج لهم فرجةً. وقال الآخرُ: اللهمَّ إنى كنتُ استأجرْتُ أجيرًا بِفَرَقِ أرُزٍّ، فلمَّا قضى عملَه، قال لى: أعطنى حقِّي، فعرضتُ عليه فَرَقَهُ، فرغِبَ عنه، فلم أزلْ أزرعُه حتى جمعتُ منه بقرًا ورِعاءَها، فجاءني فقال: اتقِّ اللهَ ولا تظْلمْنى حقِّي، قلتُ: اذهبْ إلى تلك البقرِ ورِعائِها فخذْها، فقال: اتقِّ اللهَ ولا تستهزئْ بى، فقلت: إني لا أستهزئُ بك، خذْ ذلك البقرَ ورِعاءَها، فأخذه وذهب به، فإنْ كنتَ تعلمُ أني فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجْهِك، فافْرُجْ ما بقيَ، ففَرَجَ اللهُ ما بقيَ".