من صور الحياة المتكررة أنَّك قد ترى شخصين جمع الله بينهما على مقاعد الدراسة، ثم قاعات الجامعة... وطالت صحبتهما وتعمقت علاقتهما، حتى بدا لك أنهما ذوا قرابة، وكما هي سنة الحياة، فإنَّ دوام الحال من المحال، وعواصف التغيير تعصف على القلوب...
فدقَّت على أبواب الفراق والتجافي، فتبدأ الفرقة والتنافر وتكتسي القلوب بران الحقد والكراهية، وكلٌ ظنَّ في الآخر شرًا، ولا يزال الشيطان ينفخ في البغضاء حتى استشاطت، ووصل الحال ربما إلى أن ينتهز كلٌ منهما فرصةً ليطعنَ في الآخر، وكأنهما لم يكونا في يومٍ من الأيام أصدقاء!
وهل يكون هذا بين الأصدقاء؟
ولكن لماذا في بعض الحالات نجد أنَّ هناك من قد قطع كل حبال الود، بل وأعرض بشدة لكل دعوى الوفاق والتراضي، ويغلق بابه على كل ساعٍ لعودة العلاقة الطيبة؟
هل هذا في الدين من شيء؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول ﷺ: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَحاسَدُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إخْوانًا "، لماذا هذه العداوة وأحدُنا لا يعرف أين الخير، لماذا الإعراض عن الصلح وعودة المياه إلى مجاريها؟
لقد كان النبي ﷺ يجد أشد العداوة من قريش والتكذيب لما جاء به من الحقِّ، ومع هذا فقد كان ﷺ شديد الحرص على هدايتهم، لأنَّه كان يعرف أنَّ قريشًا كان لها مكانتها بين العرب، ولذلك كان حريصًا على الخير، ونشر الدين، ولا يزال ﷺ داعيًا لعمه أبي طالب للإسلام حتى في آخر لحظات حياته.
ولا يخفى عنا موقفه من أبي سفيان -رضي الله عنه- يوم الفتح، فسعى ﷺ لتأليف قلبه، فبعد هذا التاريخ الطويل من العداء الشديد من أبي سفيان -رضي الله عنه-، يسعى النبي ﷺ إلى أن يلين قلبه للدين، فعنِ عبد الله ابنِ عبَّاسٍ -رضي الله عنه-، قالَ: "لما نزلَ رسولُ اللَّهِ ﷺ مرَّ الظَّهرانِ قالَ العبَّاسُ: قلتُ واللَّهِ، لئن دخلَ رسولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ عُنوةً، قبلَ أن يأتوهُ فيَستأمنوهُ إنَّهُ لَهَلاكُ قُرَيْشٍ، فجلَستُ على بغلةِ رسولِ اللَّهِ ﷺ، فقلتُ لعلِّي أجدُ ذا حاجةٍ يأتي أَهْلَ مَكَّةَ فيخبرُهُم بمَكانِ رسولِ اللَّهِ ﷺ ليَخرجوا إليهِ، فيستأمِنوهُ فإنِّي لأسيرُ إذ سَمِعْتُ كلامَ أبي سفيانَ، وبُدَيْلِ بنِ ورقاءَ، فقلتُ: يا أبا حنظلةَ، فعرفَ صوتي، فقالَ: أبو الفضلِ؟ قلتُ: نعَم، قالَ: ما لَكَ فداكَ أبي وأمِّي؟ قلتُ: هذا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، والنَّاسُ، قالَ: فما الحيلةُ؟ قالَ: فرَكِبَ خلفي، ورجعَ صاحبُهُ، فلمَّا أصبحَ غَدوتُ بِهِ على رسولِ اللَّهِ ﷺ، فأسلَمَ، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ يحبُّ هذا الفخرَ، فاجعَل لَهُ شيئًا، قالَ: نعَم، من دخلَ دارَ أبي سفيانَ فَهوَ آمِنٌ، ومن أغلقَ علَيهِ دارَهُ فَهوَ آمِنٌ، ومن دخلَ المسجدَ فَهوَ آمنٌ قالَ: فتفرَّقَ النَّاسُ إلى دورِهِم وإلى المسجِدِ ".
وكلنا يعرف أبا جهلٍ -عليه من الله ما يستحق- ونعرف شدة عداوته للإسلام، حتى لقَّبه البعض بـ(فرعون هذه الأمة) لشدة كراهيته للرسول ﷺ وللإسلام والمسلمين، وهي لا تخفى على كل ذي بصيرة، ودوَنتها دواوين السيرة، وسُودت بها سطور التاريخ، ومع هذا فإنَّ رسول الله ﷺ دعا ربَّه فقال: "اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ بأحبِّ هذين الرجُلين إليك بأبي جهلٍ أو بعمرَ بنِ الخطابِ فكان أحبُّهما إلى اللهِ عمرَ بنَ الخطابِ ".