يقول الشاعر:
عجبت من إبليس في تيهه *** وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة *** وصار قوادًا لذريته
عجيب أمرك يا ابن ادم! فرغم أنَّك تعلم أنَّه عدوك يقينًا، إلا أنَّك تطيعه في أوامره، وتتبع خطواتِه، مع علمك أنَّه سيأخذك إلى الظلمات والرزايا، جعلته لك قائدًا رغم أنه قدَّم العهود على أنْ يجعلك في دركات النار، والأعجب من ذلك أنَّه لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا، بل هو ضعيف مخذول ملعون، ومما يزيد العجب أنَّه لم يعدك بخير يقدِّمه إليك، أو سوءًا يصرفه عنك، بل اتبعته برغبة منك وإرادة لما يمليه عليك؛ مع يقين علمك أنَّه عدوك؛ وجعلته حبيبًا لك تجاهلًا وحمقًا!
عن أم المؤمنين صفية بنت حيي -رضي الله عنها- قالت: "أنَّهَا جَاءَتْ رَسولَ اللَّهِ ﷺ تَزُورُهُ وهو مُعْتَكِفٌ في المَسْجِدِ، في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ معهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حتَّى إذَا بَلَغَ قَرِيبًا مِن بَابِ المَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مَرَّ بهِما رَجُلَانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّما علَى رَسولِ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ نَفَذَا، فَقالَ لهما رَسولُ اللَّهِ ﷺ: علَى رِسْلِكُمَا، قالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ! وكَبُرَ عليهما ذلكَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُما شيئًا ".
وقد جعل بعض العلماء اللفظ على ظاهره، وأنَّ الله -تعالى- جعل للشيطان قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان مجاري دمه، وقيل: هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لايفارقه دمه ، لكن الصحيح الذي مال إليه أكثر أهل العلم هو دخول الشيطان جسم ابن آدم، وشواهد الواقع وظواهر النصوص متضافرة على ذلك، ومع هذا فكثرة إغوائه ووسوسته، والوقوف للإنسان في كل أموره، واضحة جلية.
قال -تعالى-: ﴿يا بَني آدَمَ لا يَفتِنَنَّكُمُ الشَّيطانُ كَما أَخرَجَ أَبَوَيكُم مِنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوآتِهِما إِنَّهُ يَراكُم هُوَ وَقَبيلُهُ مِن حَيثُ لا تَرَونَهُم إِنّا جَعَلنَا الشَّياطينَ أَولِياءَ لِلَّذينَ لا يُؤمِنونَ ﴿٢٧﴾ [سورة الأعراف].
يقول السعدي -رحمه الله-: "يقول -تعالى-، محذرا لبني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) بأن يزين لكم العصيان، ويدعوكم إليه، ويرغبكم فيه، فتنقادون له (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) وأنزلهما من المحل العالي إلى أنزل منه، فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك، ولا يألو جهده عنكم، حتى يفتنكم، إن استطاع، فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم، وأن تلبسوا لأمَةَ الحرب بينكم وبيْنه، وأن لا تغفُلوا عن المواضع التي يدخل منها إليكم.
فـ (إِنَّهُ) يراقبكم على الدوام، و(يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) من شياطين الجن (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) فعدم الإيمان هو الموجب لعقد الولاية بين الإنسان والشيطان.
﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ ، فيه توضيح لحقيقة هذا العدو، والتحذير منه، والاستعداد لمدافعته وعدم الاستجابة لأمره، والتنبه لحقيقة الحرب بيننا وبينه، ولكن لا نيأس ولا نشعر بالإنهزامية، بل نحن أقوى، وهو ضعيف لا يمكنه الصمود، قال -تعالى-: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴿٧٦﴾ [سورة النساء].
فإذا كان ضعيفًا فلماذا أخشاه؟
اعلم عدوك أولًا، وجهده للإضلال والغواية، وسُبله ودواعيه، وغايته التي بيّنها الله -تعالى- في القرآن، فقال -تعالى- مبينًا حاله: ﴿لَّعَنَهُ اللَّـهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ﴿١١٨﴾ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّـهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّـهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ﴿١١٩﴾ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴿١٢٠﴾ أُولَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ﴿١٢١﴾ [سورة النساء]، فقد طرده الله -تعالى- من رحمته، ولذلك حلف أن يجعل من أبناء بني آدم قسمًا معلومًا لغوايتهم وإضلالهم، وصدهم عن السبيل المستقيم، ويمنّيهم الوعود الكاذبة، ويزين لهم الباطل ليقبلوه ويُقبلوا عليه، بل ويأمرهم ليبتكوا ويقطعوا آذان الأنعام لتحريم ذبحها وتبديل أمر الله، بل وليأمرهم ليغيروا خلق الله -تعالى-، فتتغير فطرته، -والفطرة هي مستودع الخير والإيمان- ومن يطع الشيطان فقد خسر خُسرانًا مبينًا عظيمًا بموالاة الشيطان، وكل وعوده كاذبة باطلة لا حقيقة لها .
وقد جاءت الآيات الكريمة بقول إبليس حين دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قال -تعالى-: ﴿وَقالَ الشَّيطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمرُ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُم وَعدَ الحَقِّ وَوَعَدتُكُم فَأَخلَفتُكُم وَما كانَ لِيَ عَلَيكُم مِن سُلطانٍ إِلّا أَن دَعَوتُكُم فَاستَجَبتُم لي فَلا تَلوموني وَلوموا أَنفُسَكُم ما أَنا بِمُصرِخِكُم وَما أَنتُم بِمُصرِخِيَّ إِنّي كَفَرتُ بِما أَشرَكتُمونِ مِن قَبلُ إِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ ﴿٢٢﴾ [سورة إبراهيم].
فقال الشيطان: إنَّ الله وعدكم الوعد الحق، فأنجزكم ما وعدكم، ووعدتكم وعد الباطل فلم أفِ بما وعدتكم، وما كان لي عليكم من قوة أقهركم بها في الدنيا على الكفر والضلال، لكن دعوتكم إلى الكفر، وزينت لكم المعاصي، فسارعتم باتباعي، فلا تلوموني على ما حصل لكم من الضلال، ولوموا أنفسكم، فلست مغيثًا لكم، ولا أدفع عنكم العذاب، وإني كفرت بجعلكم إياي شريكّا لله -تعالى- في الطاعة والعبادة .
ولعلنا نتساءل: وكيف النجاة من الغواية واتباع الشيطان؟
اعلم يقينًا أنَّك أنت الأقوى، أقوى بتوكلك على الله، قال -تعالى-:﴿فَإِذا قَرَأتَ القُرآنَ فَاستَعِذ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ ﴿٩٨﴾ إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ ﴿٩٩﴾ إِنَّما سُلطانُهُ عَلَى الَّذينَ يَتَوَلَّونَهُ وَالَّذينَ هُم بِهِ مُشرِكونَ ﴿١٠٠﴾ [سورة النحل].
ومن طرق التخلص من وساوس الشيطان:
1. الاستعاذة بالله منه، قال -تعالى-: ﴿وَإِمّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطانِ نَزغٌ فَاستَعِذ بِاللَّـهِ إِنَّهُ سَميعٌ عَليمٌ ﴿٢٠٠﴾ إِنَّ الَّذينَ اتَّقَوا إِذا مَسَّهُم طائِفٌ مِنَ الشَّيطانِ تَذَكَّروا فَإِذا هُم مُبصِرونَ ﴿٢٠١﴾ وَإِخوانُهُم يَمُدّونَهُم فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقصِرونَ ﴿٢٠٢﴾ [سورة الأعراف].
فالمؤمن يسارع بالاستعاذة بالله سبحانه، أما أولياء الشيطان فيسترسلون معه، قال السعدي -رحمه الله-: "في أي وقت وحال (يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيطانِ نَزغٌ)، أي: تحس منه بوسوسة وتثبيط عن الخير أو حث على الشر، (فَاستَعِذ بِاللَّـهِ)، التجئ واعتصم بالله، واحتم بحماه، فإنه (سَميعٌ) لما تقول (عليمٌ) بنيتك وضعفك وقوة التجائك فيحميك من فتنته ويقيك وسوسته، ولأنَّ العبد قد يغفل عن ذكر الله -تعالى-، فلا يزال الشيطان متربصًا ومرابطًا ينتظر غفلته، وذكر -تعالى- علامة المتقين من الغافلين، أنَّ المتقي إذا أحس بذنب ومسَّه طائف من الشيطان، تذكَّر أنَّ هذا من وساوسه ونزغه، فاستغفر واستدرك ما فرط بالتوبة النصوح، والحسنات الكثيرة، فردَّ الشيطان خاسئًا حسيرًا، وأما إخوان الشياطين وأوليائهم إذا وقعوا في الغيِّ والضلال، لا يزالون الشياطين يمدونهم في الغي ذنبًا بعد ذنب، ولا يقصرون في ذلك، لأنهم رأوا منهم سلاسة في الانقياد ".
2. المسارعة في الصالحات من الأعمال والأقوال، فيكون لهم معيَّة من الله ونُصرة على الشيطان من شياطين الجن والإنس الذين يزينون للناس الباطل ويزخرفونه، قال -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوا وَالَّذينَ هُم مُحسِنونَ ﴿١٢٨﴾ [سورة النحل].
3. اتخاذ الصحبة التي تعين على الخير، والتواصي بالحقِّ والصبر، كما قال -تعالى-: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿٢﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴿٣﴾ [سورة العصر].
4. البعد عن واجتناب المؤثرات والشبهات التي تفتح أوسع الأبواب للشيطان، قال -تعالى-: ﴿وَإِذا رَأَيتَ الَّذينَ يَخوضونَ في آياتِنا فَأَعرِض عَنهُم حَتّى يَخوضوا في حَديثٍ غَيرِهِ وَإِمّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيطانُ فَلا تَقعُد بَعدَ الذِّكرى مَعَ القَومِ الظّالِمينَ ﴿٦٨﴾ [سورة الأنعام].
احذر وتجنَّب أن تخالط وتجالس من يتكلم بغير علم، وابتعد عن كل كلام فيه خوض بالباطل، وعدم تعظيم الله -تعالى- وشرعه، ونبيه ﷺ.
5. الإكثار من ذكر الله -تعالى-، ففي الحديث القدسي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله ﷺ: "يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ".
قال -تعالى-: ﴿وَإِذا قُرِئَ القُرآنُ فَاستَمِعوا لَهُ وَأَنصِتوا لَعَلَّكُم تُرحَمونَ ﴿٢٠٤﴾ وَاذكُر رَبَّكَ في نَفسِكَ تَضَرُّعًا وَخيفَةً وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ بِالغُدُوِّ وَالآصالِ وَلا تَكُن مِنَ الغافِلينَ ﴿٢٠٥﴾ [سورة الأعراف].
فالذكر يكون بالقلب وباللسان، ويكون بهما معًا، وهو الأكمل، (تَضَرُّعًا): أي مُتضرعًا بلسانك، مكررًا لأنواع الذكر، (وَخيفَةً) في قلبك، بأن تكون خائفًا من الله، وجُلّ الخوف وأعظمه أن يكون عملك غير مقبول، وعلامة الخوف أن يسعى ويجتهد في تكميل العمل وإصلاحه (وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ): أي: كن متوسطًا لا تجهر بصلاتك ولا تخافت، وابتغ بين ذلك سبيلًا، (بِالغُدُوِّ) أول النهار، (وَالآصالِ) آخره، ولهذان الوقتان ميزة وفضيلة على غيرهما، (وَلا تَكُن مِنَ الغافِلينَ) الغافل من سهى ونسي ذكر الله، ونسأل الله العفو والعافية.
ولله الحمد والفضل، فبعد أن عرفنا ضعفه وعجزه، وبعد أن تبيَّن لنا مداخله، وعداوته الشديدة لبني آدم، فأصبح -بإذن الله- من السهل عليكَ -بعد توفيق الله- أن تهزمه، وأن تطرده وتخزيه، وذلك باستقامتك على دين الله، والمدوامة على ذكره -سبحانه-، وتجنُب مواطن الفتن.