سمعتها تشتكي بمرارة وشعور بالظلم قائلة: لا أعلم ما الذي أصاب الناس؟ لا أكاد أن أتكلم مع أحد منهم، إلا وانتهى حوارنا بالمشاكل، وقد وغَر في قلوبِنا شيئًا من العتاب والبغض!
قلت لها مستفسرةً: لعلك نطقت بكلمة لم تعتقدي أنها قد تُغضبها؟ أو ربما كان الطرفُ الآخر متوتر أو متضايق من شيء ما فانفعل بشدة؟ أو لعل أحدكما لم يفهم مقصود الآخر؟
فقاطعتني قائلة: لا، أبدًا، لم يعد الناس يفهم بعضهم بعضًا على محمل حسن الظن، فكلٌّ يتحامل على الآخر، ويكنُّ له في نفسه ما لا يعلم به إلا الله، ويتحين مناسبة قريبة ليظهر ذلك في صورة كلام جارح، واستخفاف بالآخرين، فيحملها كل ما في صدره.
فكرت فيما قالت، وحدثت نفسي قائلة: سبحان الله لم يكن الرسول ﷺ يكلم أحدًا إلا وأسَر قلبَه، وملَك جوارحَه، فأين السر؟
الأمر في الحقيقة ليس سرًّا، بل هو: (فن امتلاك القلوب والنفوس)، فقائدُنا وقدوتُنا الحبيب محمد ﷺ، امتحده ربُّه فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿٤﴾ [سورة القلم]، أدَّبه ربُّه فأحس تأديبه.
قال الشاعر ناصر الزهراني:
يكفيك عن كل مدحٍ مدحُ خالقه *** وأقرأ بــربِّك مبدأ سورة القلم
شهم تشيد به الدنيا برمتها *** على المنـائر من عرب ومن عجم
فداك أبي وأمي ونفسي وكل ما أملِك، لم يسمع بك أحدٌ أو جالسك وسمع منك ونظر إليك، إلا أسرت قلبَه وعقلَه، وامتلأ فرحًا وبهجةً بما قلت ونطقت، كان سيد الأنام ﷺ، يعرف نفسية الطرف الذي يتكلم معه، ويفهم طريقة تفكيره، ويدرس حاجته ورغبته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أنَّ أعْرَابِيًّا أتَى رَسولَ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: إنَّ امْرَأَتي ولَدَتْ غُلَامًا أسْوَدَ، وإنِّي أنْكَرْتُهُ، فَقالَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هلْ لكَ مِن إبِلٍ؟، قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَما ألْوَانُهَا؟، قالَ: حُمْرٌ، قالَ: هلْ فِيهَا مِن أوْرَقَ؟، قالَ: إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قالَ: فأنَّى تُرَى ذلكَ جَاءَهَا، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، عِرْقٌ نَزَعَهَا، قالَ: ولَعَلَّ هذا عِرْقٌ نَزَعَهُ، ولَمْ يُرَخِّصْ له في الِانْتِفَاءِ منه ".
في الموقف النبوي ملامح تربوية:
- بيان حسن تقدير النبي ﷺ للأمور؛ فالمسألة متعلقة بالنسب والشرف، والسائل أعرابي من البادية، فلم يكن من الحكمة الاكتفاء بالجواب المباشر الذي قد لا يشفي غليلًا، خاصًة مع أمر متعلق بالشرف والنسب.
- السائل رجل من البداية، ففهم النبي ﷺ البيئة التي يسكنها، وما اعتاد أن يراه ممن حوله، وليُحسن التعليم اختار مثالًا يلامس واقع السائل وبيئته، كما أنَّ ذلك المثل المضروب لم يكن على صيغةٍ خبريّة كما جرت العادة، بل كان قائمًا على أسئلة مترابطة تستنطق الأعرابي وتقوده إلى القناعة بنفسه، فصلوات الله وسلامه على معلّم البشريّة الأوّل.
- عرض النبي ﷺ جعل الأعرابي سعيدًا مطمئنًا، قرير العين هانئ البال.
عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: "أنَّ غلامًا شابًّا أتى النبيَّ ﷺ فقال: يا نبيَّ اللهِ أتأذنُ لي في الزنا؟ فصاح الناسُ به، فقال النبيُّ ﷺ قَرِّبوهُ، ادْنُ فدنا حتى جلس بين يديْهِ، فقال النبيُّ ﷺ: أتحبُّه لأُمِّكَ فقال: لا، جعلني اللهُ فداك، قال: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لِأمَّهاتِهم، أتحبُّه لابنتِك؟ قال: لا، جعلني اللهُ فداك، قال: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لبناتِهم، أتحبُّه لأختِك؟ وزاد ابنُ عوفٍ حتى ذكر العمَّةَ والخالةَ، وهو يقولُ في كلِّ واحدٍ لا، جعلني اللهُ فداك، وهو ﷺ يقولُ كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه، وقالا جميعًا في حديثِهما -أعني ابنَ عوفٍ والراوي الآخرَ-: فوضع رسولُ اللهِ ﷺ يدَه على صدرِه وقال: اللهمَّ طهِّرْ قلبَه واغفر ذنبَه وحصِّنْ فَرْجَه فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه منه".
في الموقف النبوي ملامح تربوية:
- السائل شاب تتوقد فيه حرارة الشهوة والرغبة، وهو آت يستأذن النبي ﷺ، -وكأنه يشعر أنَّ الأمر هيِّن إن أذن ﷺ.
- لم ينفعل النبي ﷺ من جرأة الشاب أمام جماعة من المسلمين، فليس من الحكمة أن يكون رد النبي ﷺ أن يكون النهي وكفى -فداه روحي ودمي ونفسي-، فهو الطبيب المداوي، والمعلم والموجه ﷺ.
- طلب ﷺ من الشاب أن يدن منه، ليشعر بالاطمئنان والسكون النفسي، ووضع يده على ظهره .
- بدأ النبي ﷺ بالأسئلة التي يستنطق منها الشاب لتحريم الزنا.
- دعا النبي ﷺ وسلم للشاب بما يأنس به وترضى نفسه.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "أنَّ أعْرَابِيًّا بَالَ في المَسْجِدِ، فَثَارَ إلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا به، فَقالَ لهمْ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: دَعُوهُ، وأَهْرِيقُوا علَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ -أوْ سَجْلًا مِن مَاءٍ- فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ ".
في الموقف النبوي ملامح تربوية:
- المكان مكان طهارة وصلاة، والنجاسة تُبطل الصلاة، ومع هذا فإنَّ النبي ﷺ، لم يُوبِّخ، ولم يُعنِّف، وطلب منهم تطهير المكان.
- توجه ﷺ إلى أصحابه -رضي الله عنهم- وطلب منهم تنظيف النجاسة.
- ذكَّرهم بالقاعدة الأساسية في الدعوة: (فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ).