الموت هذا الذي قصم الله به رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، قصر به آمال القياصرة، الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة، حتى جاءهم الوعد الحق فأرداهم في لحافرة، فانتقلوا من سعة الدنيا إلى ضيق القبور، ومن العيش الرغيد إلى النار والوعيد، ومن فسحة القصور إلى ضيق اللحود... والموت جعله الله مُخلِّصًا للأتقياء، موعدًا في حقهم للقاء، وجعل القبور لهم راحة وهناء وروضة من الجنان.
الموت الذي إذا ذُكر رجفت القلوب، وخشعت الأبصار، واقشعرت الأبدان.
الموت أيها الغائب المرتقب، تأتي دون إنذار وتأخذ بأمر الله وتختار، لا تفرق بين صغار وكبار، أو نساء ورجال، تلتقط من هنا وهناك دون طرق للأبواب أو إخبار، ماذا عسانا أن نفعل حتى لا نخاف منك ونحتار، ما هو السبيل لأن نكون على استعداد لاستقبالك في أي وقت تختار؟
روي عن أبي حازم سلمة بن دينار -رحمه الله- أنه قال: "ما أحببت أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم، وانظر كل عمل كرهت الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت".
أي كل عمل كان في طاعة الله -تعالى- ورضاه، فاسع للقيام به، وابذل فيه الجهد، وافرح به واشكر الله على التوفيق، وكل عمل كرهت الموت لأجله لعلمك أنَّك تخالف أمر ربّك، وتتبع هوى نفسك، وتُرضي به شهواتك، وتطيع به شيطانك، فاتركه اليوم، وألقه خلف ظهرك، والزم أمر ربّك، فلا يضرك بعد ذلك متى جاءك الموت.
وقد كان حماد بن سلمة -رحمه الله- إذا قيل له القيامة غدًا، لا يقدر أن يزيد في عمله شيئًا. لأنَّه يحسب على نفسه كل أعماله، هل تنفعه في الآخرة أم لا تنفعه، أم هي عليه.
وعنْ أبي يَعلَي شدَّادِ بنِ أوْسٍ -رضي اللهُ عنه-، عنِ النَّبي ﷺ قال: "الكيِّسُ مَنْ دَانَ نفْسَه، وعَمِلَ لما بعدَ الموْتِ، والعاجزُ مَنْ أتْبعَ نَفْسَه هواها، وتمنَّي علَي اللهِ ".
الكيِّس: الإنسان العاقل الحازم، الذي يحسن تدبير الأمور، وينظر في العواقب، ويحترز الاحتراز المطلوب، لأنَّه يعلم أنَّ الدنيا إلى زوال، وأنَّ الآخرة هي دار البقاء والخلود، فلم يترك هذه النفس منطلقة، ترتع في بحر الشهوات والأهواء، فإنَّ ذلك عاقبته رديَّة.
وبخلاف ذلك الإنسان قصير النظر الذي يتبع هواه، كلما عرضت له شهوة تبعها، ومطيعًا لهواه ورغباته، فنسي أنَّ هذا سراب زائل، لا يحمل منه إلا الآثام.
العاقل الكيِّس يتجنب الاقتراب من الشبهات والشهوات، فيخشى على دينه، ويُعدُّ الجواب ليوم الحساب، فاللذة تعقبها حسرة، فلذات هذه الحياة الدنيا المحرَّمة منغصة تتلوها الحسرات، فهي مكدرة، فعلى المسلم أن يكون متبصرًا للأمور، عالمـًا بمآلها ومرجعها، فإذا رأى من نفسه تفريطًا في الواجب استدركه إذا أمكن استدراكه، وقام به أو بدَّله، وإذا رأى من نفسه انتهاكًا لمحرَّم تركه وأقلع عنه وندم وتاب واستغفر.
ذكر ابن حزم -رحمه الله- مثالًا لهذا بطريقين: أحدهما ضيق يفضي إلى قصور وحدائق غنَّاء واسعة، والآخر واسع فيه أزهار، وفيه أشياء جميلة جدًا ويفضي إلى مكان ضيق، يكون مثوى هذا الإنسان، فالعاقل يُؤثِر سلوك الطريق الوعر الضيق الذي يفضي به فيما بعد إلى مكان رحب واسع فيه ما لذَّ وطاب، وأمَّا الإنسان الذي يكون نظره قاصرًا فيقول: أسلك هذا الطريق القصير الواسع، ثم بعد ذلك ليكن ما يكون من المآل والمصير الذي يفضي إليه، وهذا لا ينبغي للإنسان أن يكون منهجًا له في التفكير والعمل.
فالكيِّس يعمل لما بعد الموت، لأنَّه هو المستقبل الحقيقي، وهي الدار التي يفضي إليها، إمَّا إلى جنة، أو إلى نار، ولا ينفع الندم، ولا ينفع الاستعتاب، ولا تنفع التوبة.
يسر المرءَ طولُ عيشٍ *** وطولُ عيشٍ قد يضره
تفنى لذاذتُه ويبقى *** بعد حلوِ العيشِ مُرُّه
وتسوءه الأيامُ حتى *** ما يرى شيئاً يسرُّه
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقته الأعمال"، فعلينا جميعًا أن ننتهز الفرصة في كل ما يقرِّب إلى الله من فعل الأوامر واجتناب النواهي، حتى إذا قدمنا على الله كنَّا على ما يحب -تعالى- ويرضى، ونسأله -تعالى- أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.