ما أجمل أن نتمتع بنعم الله علينا، تلك النعم التي لا تعد ولا تحصى، النعم التي ذكر رسول الله ﷺ شيئًا منها في الحديث وبيّن أنَّ مجرد حصول المرء عليها فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها.
عن عبيد الله بن محصن قال، قال رسول الله ﷺ: "مَن بات آمنًا في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنّما حِيزت له الدُّنيا بحذافيرها ".
هذا الحديث يلخِّص بكل اختصار معاني وجماليات الحياة، والوصول للسعادة التي يرتجيها الإنسان له ولذريته، أول الأمر هو أن يبيت آمنًا في سربه، بمعنى أن يبيت ويستغرق في النوم، وهو سعيد في مقرِّ سكنه، وبين أهله، لا يخشى غدرة غادر، ولا قاطع طريق سارق، ولا زلازل وانفجارات، فإنَّ هذا الأمان نعمة كبرى من الله -سبحانه وتعالى-، لا يدرك قيمتها إلا من فقدها.
إنَّ هذا الأمن في السرب الذي يطمح إليه الإنسان هو الذي وصفه رسول الهُدَى -صلوات الله وسلامه عليه- بأنَّه مع معافاة البدن، ووجود قوت اليوم، وحاله كأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها، وهذه هي القناعة للإنسان العادي الذي يبحث عن رضا الله، والعيش القنوع الهادئ، وإذا انطلق الإنسان في حياته من مبدأ القناعة فسيعيش سعيدًا في كل حال، وهناك ثلاثة مبادئ:
- إذا صحت عقيدة التوحيد.
- وصحت عقيدة التوكل على الله.
- وتحقق مبدأ القناعة والرضا بقسمة الله في الأزل.
وهذه هي مقومات السعادة، ومستوى الحياة الذي يتحقق فيه الكفاف.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ "
ومع هذا لا يعني أنَّه إذا فتح الله عليك أبواب الرزق وأعطاك ما تتمنى، أنه يحبك ويرضى عنك! بل قد يكون استدراج والعياذ بالله، لنتأمل قوله -تعالى-: ﴿فَلَمّا نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ فَتَحنا عَلَيهِم أَبوابَ كُلِّ شَيءٍ حَتّى إِذا فَرِحوا بِما أوتوا أَخَذناهُم بَغتَةً فَإِذا هُم مُبلِسونَ ﴿٤٤﴾ فَقُطِعَ دابِرُ القَومِ الَّذينَ ظَلَموا وَالحَمدُ لِلَّـهِ رَبِّ العالَمينَ ﴿٤٥﴾ [سورة الأنعام].
قال السعدي -رحمه الله-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) من الدنيا ولذاتها وغفلاتها، (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)، أي: آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب، أن يُؤخذوا على غرَّة، وغفلة وطمأنينة، ليكون أشد لعقوبتهم، وأعظم لمصيبتهم.
(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي: اصطلموا بالعذاب، وتقطعت بهم الأسباب. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) على ما قضاه وقدره، من هلاك المكذبين، فإنَّ بذلك، تتبين آياته، وإكرامه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصدق ما جاءت به المرسلون .
فهذا العطاء هو عطاء استدراج وعذاب، قال -تعالى- عن قارون: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴿٧٦﴾ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿٧٧﴾ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴿٧٨﴾ [سورة القصص].
(وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي: أعطاه من الأموال لَيُثقلُ حملُها الفئامَ من الناس لكثرتها، (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي: وعظه فيما هو فيه صالح قومه، فقالوا على سبيل النصح والإرشاد: لا تفرح بما أنت فيه، يعنون: لا تبطر بما أنت فيه من الأموال (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم.
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربِّك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، فآت كل ذي حقٍّ حقَّه.
(وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك، (وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ) أي: لا تكنْ همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض، وتسيء إلى خلق الله (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).
ولكنه كفر وبطر وتجبر، فأهلكه -تعالى- هو أمواله وكل ما يملك، ولم يغن عنه أحدًا، قال -تعالى-: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ﴿٨١﴾.
عن عقبة بن عامر أن رسول الله ﷺ قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته، فإنما ذلك استدراج ، ثم تلا قوله -تعالى-: ﴿فَقُطِعَ دابِرُ القَومِ الَّذينَ ظَلَموا وَالحَمدُ لِلَّـهِ رَبِّ العالَمينَ ﴿٤٥﴾.
فلننظر إلى ما أنعم الله به علينا وفضَّلنا به على غيرنا، ونقف عند بابه فقراء أذلَّاء لا غنى لنا عنه -سبحانه-، فهو صاحب الفضل من قبل ومن بعد، ولنشكر نعمه ونؤدي حقَّها، وأن ننفقها فيما يرضي الله -تعالى-، ونستصغر أنفسنا أمام عظمة الخالق -جلَّ في علاه-، ونكون عونًا للمسلمين.