هل فكرت كيف تُقَيِّم الأمور؟
هل عرفت المقياس الحقيقي لجميع ما تمر به من ظروف ومواقف؟
هل عرفت يومًا ثمنك وقيمتك؟
هناك ميزان دقيق جدًا يقيس لك الأمور، ويرجِّح لك الكفة الأفضل بالنسبة لك، فتنعم بسعادة الدنيا والآخرة.
ولكن هل بحثت عنه؟
وهل اهتديت للوصول إليه كما اهتدت له تلك الفتاة الأنصارية؟
جليبيب -رضي الله عنه-، جاء إلى مكة صبيًّا، فلا أهل ولا جاه ولا مال ولا عشيرة ولا جمال، رجل فقير مُعدم، لا يكاد يجد قوت يومه، عليه أسمال بالية، وثياب رثَّة، حافي القدم، لا يعرفه أحد، ليس له بيت يأويه، ولا أثاث يضع عليه جسده آخر النهار من التعب والضعف، مغمور النسب، يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الوارِدين، وينام في المسجد، مخدته ذراعه، وفراشه البطحاء. -هو في ميزاننا ومقياسنا رجل لا قيمة له وفقدانه بركة وبقاؤه هم- لكنه عند الله -تعالى- ليس كذلك، فهو صاحبُ ذكرٍ لربِّه، وتلاوة لكتاب مولاه، لا يغيب عن الصفِّ الأول في الصلاة والقتال، مرَّ ذات يوم برسول الله ﷺ فناداه باسمه وصاح به: "يا جليبيب ألا تتزوج"؟
قال متعجبًا: "ومن يزوجني يا رسول الله، فلا مال ولا نسب ولا جاه، والله تجدني كاسدًا يا رسول الله".
فيرد عليه النبي ﷺ -صاحب الخلق العظيم والكلام الطيب، يعرف حقيقة التفاضل بين البشر- فيقول: ولكنك عند الله لست بكاسد. -الميزان الحق هو ما عند الله تعالى-.
وفي هذه الأثناء ينطلق رجل من الأنصار إلى النبي ﷺ ويعرض عليه أن يزوج ابنته التي فقدت زوجها وانكسر قلبها، فهي فتاة من أسرة أنصارية معروفة ونسب عريق ومال وفير.
فيقول رسول الله ﷺ -صاحب القلب الرحيم الذي يهتم لجميع أمور المسلمين وأحوالهم-: "أنا أزوج ابنتك لجليبيب".
وهنا تعقد الدهشة لسان الأب الحنون على ابنته فيقول: جليبيب يارسول الله! ثم يتعلل بمشاورة والدتها، فيذهب إلى زوجته ويقول: "رسول الله ﷺ يخطب ابنتك".
فتستبشر الأم وتفرح، معتقدة أن النبي ﷺ يخطبها لنفسه، فتقول: "ومن يرد خطبة رسول الله ﷺ؟".
فيرد عليها زوجها بأسى وحزن: "لا يريدها لنفسه، بل لجليبيب".
فترفع الأم صوتها من الدهشة والعجب: جليبيب!
وهل في المدينة أفقر منه؟
أأعطي ابنتي لجليبيب وقد رددنا فلانًا وفلانًا؟
فتسمع البنت -المؤمنة التقية التي تعلم حقيقة صناعة الرجال-، ما يدور بين والديها، وطلب النبي ﷺ من أبويها: "أتردان طلب رسول الله ﷺ، لا والذي نفسي بيده لا أرد خطبة رسول الله ﷺ".
ويحصل الزواج المبارك والبيت العامر، المؤسس على تقوى من الله ورضوان، فزوجها النبي ﷺ جليبيبًا، ودعا لهما وقال: "اللَّهُم صب عليهما الخير صبًا، ولا تجعل عيشهما كدًّا كدًّا"، وما أجملها من دعوة، فيهنأ الزوجان في بيتهما المبارك، وحياتهما التي كانت بدايتها طاعة لرسول الله ﷺ، ويسكن كلٌ منهما للآخر... وتمر الأيام وينادي منادي الجهاد، "حيّ على الجهاد"، ولأنَّ قلب جليبيب امتلأ بحب الله والدين، والدفاع عنه، ومحاربة من يقف أمام نشر الدين ليصل إلى الخلق، فيأنسوا ويعيشوا في سعادة وهناء، فيلبي -رضي الله عنه- منادي الجهاد، ويلتحق بالصفوف المؤمنة المجاهدة، ويكون في مقدمة المجاهدين، فيحاصره سبعة من الكفار ليقتلوه، فيهجم عليهم كالأسد فيقتهلم، ثم يأتيه سهم من بعيد من أيدي الأعداء، ليستقر في قلبه، وتفيض روحه إلى بارئها، حيث عاش لأجل هذه اللحظة، ومات عليها، ليلقى ربه راضيًا عنه، وأعد له النعيم المقيم.
ويتفقَّده الرسول ﷺ، ويسأل من تفقدون: فيذكرون فلانًا وفلانًا بأسمائهم وينسون جليبيبًا في غمرة الحديث، لأنَّه ليس لامعًا ولا مشهورًا، ولا يخطر على بال بشر، ولكن الحبيب الرحيم الذي يعلم مقاييس الرجال ﷺ يذكر جليبيبًا ولا ينساه، ويحفظ اسمه في الزحام ولا يغفله، ويقول: "لكنني أفقد جليبيبًا".
فيبحث عنه في أرض المعركة، فيجده وقد تدثَّر بالتراب، فينفض التراب عن وجهه ويقول له: "قتلت سبعةَ ثم قتلوك".
ويُحفر قبر جليبيب -رضي الله عنه- ليضعه النبي ﷺ في قبره بيديه الكريمتين، ويقول: "جليبيب مني وأنا منه، جليبيب مني وأنا منه".
ويكفي جليبيبًا هذا الوسام النبوي، فأي فضل بعد هذا؟ وما عند الله خير وأبقى. أمَّا هذه الزوجة المباركة، التي عرفت تختار الرجال، فإنَّ الله -تعالى- أكرمها في الدنيا بأنها كانت من أكثر الناس مالًا، حتى قال أهل المدينة: "لم تشهد المدينة المنورة أيم (من فقدت زوجها) ملكت من الأموال والخير أكثر منها".
هذه الفتاة المباركة أصابتها دعوة النبي ﷺ، لأنها عرفت أنَّ ثمن جليبيب -رضي الله عنه- إيمانه وحب رسول الله ﷺ، ورسالته التي مات من أجلها، وثمن هذه الفتاة طاعتها لله ولرسوله ﷺ.
قال الحسن البصري لما سأله رجل عمَّن يزوِّج ابنته قال: "زَوِّجها لمن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها".
إنَّ قيمتك في معانيك الجليلة وصفاتك النبيلة، إنَّ سعادتك في معرفتك للأشياء واهتماماتك وسموك، فهنيئًا لمن عرف ثمنه فعلًا بنفسه، وهنيئًا لمن أسعد نفسه بتوجيهه وجهاده ونبله، وهنيئًا لمن أحسن مرتين، وسعد في الحياتين، وأفلح في الكرَّتين، الدنيا والآخرة.