جاءك ابنك مستشيرًا: يا أبتِ دعاني اليوم صديقي أحمد إلى بيته، ووعدني أن يقدم لي كل ما أحب من الطعام وأشتهيه، وذكرت له بعض الأصناف التي أحب تناولها، فقال: تفضل إلى بيتي، وأبشر بما تريد.
ثم جاء صديقي خالد ودعاني إلى تناول طعام الغداء معه، لأنَّه سيعود إلى بيته متأخرًا، وسيأكل ما تبقَّى من الطعام، ويريد أن أكون معه، ولكنه أخبرني أنَّ الطعام ربما لا يكفي. وأطلب نصيحتك إلى أيهما يذهب، إلى بيت أحمد أم علي، فما هو ردك؟
لعلك أخي الفاضل لن تأخذ جزءًا من الثانية لتفكر في القرار الصحيح -بالنسبة لك- لتلقي به على أذني ابنك، ولعلك تزيد فتقول: إنَّ صديقك أحمد يعرف الكرم، وكيف يحترم ضيوفه، وهذه شيمة العرب وهدي النبي ﷺ، ومثله لا تُرد دعوته، بل عليك أن تأخذ معك هدية إليه، لطيب خلقه وأدبه.
أما خالد هذا فأرجو أن تبتعد عنه ولا تخالطه، فلا يٌقبل منه، ولو أن يهتم بأن يعرف كيف يحترم الناس ويقدرهم لكان خيرًا له .
وأنا أقول لك: تمهــــل قبل أن تحكم على الآخرين، فلعلك فعلت مع ابنك مثل الذي يريد أن يفعله خالد بل أسوأ بكثير!
إذ قدمت لابنك السموم القاتلة!
لا تستغرب وانتبه لما أقول: الإنسان مكوَّن من جسد وروح، وكلٌ من الجسد والروح بحاجة إلى التغذية، وعدم الاهتمام بهذه التغذية لكلٍ منهما، فهو جناية على الإنسان بجزئيه (الروح والجسد)، وكلٌ منا حتمًا نسعى جهدنا لتغذيتهم التغذية السليمة ، فأنت لا تبخل على أبنائك بتغذية أجسادهم والعناية بها سواء أكان من ناحية المظهر الخارجي أو الطعام الذي يريدون، وتقدم لهم الأموال ليشتروا ما تشتهي نفوسهم، وتأبى أن يكون غيرهم أفضل منهم .
وأنت على هذا مشكور، ونسأل الله القبول والأجر.
ولكن ماذا قدَّمنا لتغذية الجانب الروحي عند أبنائنا؟
وماذا أعددت لهذا السؤال؟
لقد حمَّلك الإسلام مسؤولية عظيمة، وتبعاتها عليك ثقيلة، فعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله ﷺ: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه فالأميرُ الَّذي على النَّاسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرَّجلُ راعي أهلِ بيتِه وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرَّجلِ راعٍ على مالِ سيِّدِه وهو مسؤولٌ عنه فكلُّكم راعٍ، كلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه ".
فأنت أيها الأب العظيم تستطيع أن تجعل من ابنك عالمًا جليلًا وبطلاً عظيمًا، يُشار إليه بالبنان، وفي المقابل تستطيع أن تجعل منه إنسانًا تافهًا لا قيمة له ولا معنى، بل هو إلى تدمير نفسه، أهله وأمته أقرب -والعياذ بالله-، فلا يسعى إلى غاية سامية ومقصد شريف صعب المنال، لا يصله إلا العظماء الذين يُخلد ذكراهم التاريخ بحروف من نور.
فالطفل ورقة بيضاء تخط فيها ما تريد، وأنت المسؤول الأول عن كل ما يُخط في هذه الصفحة البيضاء الناصعة، وأنت الذي ترسم رسوماتها وأفكارها، وكما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه
وانظر في تاريخ الأمة إلى عظماء نسجوا البطولات، وأناروا العقول والأفكار، ورافهوا رايات العزَّة، تشهد لهم الفيافي والصحراء، والجبال والبحار، تكتب سيَرهم بالذهب الخالص، كلماتهم المعاني الدراري، ولو بحثت في تاريخهم لوجدت العجب العجاب من آباء وأمهات عرفوا مسؤوليتهم أمام الله، وأدُّوا الأمانة على أكمل وجه، فأعَدُّوا الجواب ليوم الحساب، وأيقنوا أنهم إلى ربِّهم راجعون، وعن ما قدمت أيديهم مسؤولون، فأعدُّوا الجواب قبل السؤال وفاضت أرواحهم إلى بارئهم هانئة مطمئنة.
واسمع لأخبار تهز الجبال، وتقشعر لعظمتها الجلود، أي رجال كانوا...
الإمام الطبري شيخ المفسرين:
نشأ الطبري بآمل، وتربَّى في أحضان والده وغمره برعايته، وتفرَّس فيه النباهة والذكاء والرغبة في العلم، فتولَّى العناية به ووجَّهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم، كما هي عادة المسلمين في مناهج التربية الإسلامية، وخاصةً أنَّ والده رأى رؤيا تفاءل بها خيرًا عند تأويلها.
وقد حرص والده على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ودفعه إلى تحصيله، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدَّمه والده إلى علماء آمل، وشاهدته دروب المدينة ذاهبًا آيبًا يتأبط دواته وقرطاسه، وسرعان ما تفتَّح عقله، وبدت عليه مخايل النبوغ والاجتهاد، حتى قال عن نفسه: "حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصلَّيت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة".
هاتان الصفتان من فضائل الأخلاق، ومن أشد الصفات التي يجب أن يتحلى بها العالم والداعية، والمربِّي والإمام، وكان الطبري -رحمه الله- على جانبٍ كبير من الورع والزهد والحذر من الحرام، والبُعد عن مواطن الشُّبَه، واجتناب محارم الله -تعالى-، والخوف منه، والاقتصار في المعيشة على ما يَرِدُهُ من ريع أرضه وبستانه الذي خلَّفه له والده قال عنه ابن كثير: "وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم،... وكان من كبار الصالحين".
وكان الطبري -رحمه الله- -تعالى- زاهدًا في الدنيا، غير مكترث بمتاعها ومفاتنها، وكان يكتفي بقليل القليل أثناء طلبه للعلم، وبما يقوم به أوده، ويمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء.
كان -رحمه الله- موسوعة علمية، وله الكثير من المؤلفات، ومنها:
- جامع البيان في تأويل القرآن، المعروف بتفسير الطبري، وكل من أتى من بعد الطبري وإلى يومنا هذا، إلى قيام الساعة، فلا غنى له عن تفسير الطبري.
- تاريخ الأمم والملوك، المعروف بتاريخ الطبري .
الإمام المحدث: سفيان الثوري -رحمه الله-:
شيخ الإسلام، إمام الحُفَّاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد، ولد سنة سبع وتسعين اتفاقًا، وطلب العلم وهو حدث باعتناء والده، المحدث الصادق: سعيد بن مسروق الثوري، وكان والده من ثقات الكوفيين، فاتجه تلقائيًا لعلم الحديث، وكانت له أم واعية قالت له: "يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي".
محمد الفاتح فاتح القسطنطينية:
يقول المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول Stephen Turnbull، في وصف سيرة محمد الفاتح: "لقد رُبِّي محمد الثاني -أي محمد الفاتح- ليكون أعظم سلطانٍ في زمانه"، نعم، وكان -رحمه الله-.
محمد الفاتح الذي سطر التاريخ حياته بمداد من نور، حباه الله أمًا واعية،كانت تأخذه وهو صغير إلى شاطئ النهر وتجلس معه على الضفة المقابلة، وتعده أنَّه سيكون فاتح القسطنطينية، أما أبوه فقد عرف كيف يختار لولده مربيين مثاليين، ومدرسين متميزين، فلم يلق بفلذة كبده إلى أعدائه أعداء الدين، بل سخَّر له أجلّ العلماء الذين كانت بصمتهم واضحة في حياته، وكانت تربيته من ثلاثة جوانب:
- الجانب الأول: جانب العلوم الشرعيَّة والدينيَّة، وقد اهتمَّ السلطان مراد الثاني بهذا الجانب بشكلٍ خاص، وأوكل لمهمَّة تعليم الأمير محمد أمور الفقه والقرآن والسُّنَّة واحدًا من أعظم علماء الدولة العثمانيَّة في ذلك الزمن، وهو الشيخ الكبير أحمد بن إسماعيل الكوراني، وهو عالمٌ موسوعيٌّ برع في مجالاتٍ شرعيَّةٍ شتَّى.
- أمَّا الجانب الثاني في تربية الأمير محمد فكان اهتمام السلطان مراد الثاني بتعليم ابنه العلوم الحياتيَّة والعقليَّة، إلى جوار العلوم الشرعيَّة والدينيَّة، وقد تربَّى الأمير محمد في جوٍّ منفتحٍ جدًّا، فوصلت إليه العلوم الغزيرة على أيدي المسلمين والنصارى، وعلى أيدي الأتراك وغيرهم من الأعراق المختلفة، وكل هذا أسهم في تكوين شخصيَّةٍ فريدةٍ للأمير العظيم محمد بعد ذلك.
في هذه السنِّ المبكرة تعلَّم الفاتح عدَّة لغاتٍ إلى جانب التركيَّة، فكان يتقن العربيَّة، والفارسيَّة، واللاتينيَّة، واليونانيَّة، والصربيَّة، وتُضيف بعضُ المصادر اللغةَ العبريَّة إلى اللغات التي تعلَّمها الأمير، وهذا التعلُّم الواعي لهذه اللغات المتعدِّدة فتح له آفاقًا واسعة؛ فلم يكن تعلم تبعية وانهزامية، بل كان اطلاعًا على ثقافتهم وعلومهم، مع قدرته على النقد والتمييز بين الصحيح والفاسد، لأنَّه تأسَّس على العلم الشرعي وتكاملت لديه البنية الشرعية المعرفية.
- أمَّا الجانب الثالث الذي يبرز لنا في حياة هذا الأمير العظيم فهو الجانب العملي والتدريبي في هذه الطفولة المبكِّرة، فلم يكن الأمر محدودًا بالتحصيل العلمي النظري؛ إنَّما صَاحَبَ ذلك تدريبٌ على أمورٍ شتَّى أسهمت في تكوين هذا الطفل الصغير، ولعلَّ من أبرز هذه الأمور هو التدريب على المهارات العسكريَّة وفنون القتال، فالدولة العثمانيَّة دولةٌ جهاديَّة، ولها أعداءٌ في كلِّ مكان، ولهذا اهتمَّ السلطان مراد الثاني ببناء ابنه جسديًّا ومهاريًّا، كما اهتمَّ ببنائه علميًّا وأخلاقيًّا، ولم يكن تدريبه على هذه الأمور الحربيَّة تدريبًا عاديًّا مثلما يحدث في بعض المدارس العسكريَّة الآن؛ إنَّما كان متخصِّصًا لأبعد درجة، حيث كان يتعلَّم ممارسة فنون القتال إلى جوار تعلُّمه الخطط الاستراتيجيَّة والرؤى الحربيَّة، ولقد اشترك في هذه العملية المعقَّدة من التدريب عدَّة أساتذة عسكريِّين متمرِّسين، ولهذا لم يكن من الغريب أن يخرج الأمير الصغير للقتال الفعلي وقيادة الجيوش وهو في السادسة عشرة من عمره.
هذا الطفل الذي اهتمَّ والده بزرع كلِّ هذه الأمور الجادَّة فيه بشكلٍ متكاملٍ واحترافي، من علم شرعي، وعلم حياتي، وقتال، وحروب، وقيادة، وإدارة، هذا الطفل لم يكن معزولًا تمامًا عن ممارسة الهوايات، أو الترفيه عن النفس بما يُفيد؛ فقد كان يتدرَّب على تصنيف الأزهار، وصناعة الأقواس المستخدمة في الرمي، واستخدام الأحجار الكريمة في الزينة، فضلًا عن الشعر وقراءة السير التاريخيَّة، إنَّنا بالفعل أمام حالةٍ فريدةٍ من الأطفال، وأمام طرازٍ خاصٍّ جدًّا من التربية .
واستمع معي إلى طفل من عصرنا الحاضر، لاحظ معلمه أنَّ الطفل يتحدث الفصحى بطلاقة، فشدَّ هذا الأمر انتباه المعلم، فراقب الغلام وتابعه، فإذا به لا يتحدث إلا بها، فسأله المعلم: من الذي علَّمك الفصحى؟ ومن شيخك؟
فقال الطفل: لا أحد، إنما هما أبواي.
ولاحظ المعلم كذلك أنَّ الطفل يتميز على أقرانه في حفظ القرآن الكريم، وأنَّه يجيد أحكام التلاوة بشكل منقطع النظير، فسأله عن معلمه؟ ومن شيخه؟
فكانت الإجابة: إنما هما أبواي.
فالطفل ينشأ على ما يراه في بيته، وما تلحظه نظرات عيونه، وكل ما تسمعه آذانه، بل وتؤثِّر فيه النظرات، ونبرات الصوت، وما لا يخطر على بال.
بل لقد بلغ من حرص السلف على أبنائهم أنَّهم كانوا يكثرون من الأعمال الصالحة ليتقربوا بها إلى الله لصلاح أبنائهم، فكان منهم من يكثر صلاته وقيامه، ويقول: من أجل ولدي الذي في ظهري.
وأنت أيها الأب المبارك وأنت أيتها الأم الحنون، لنقف معًا وننظر كيف حملنا المسؤولية الملقاة على أعتاقنا، ونسأل الله التوفيق والسداد، وكثرة الدعاء للأولاد بالتوفيق والهداية.