ليس عجبي من شخص أراد أن (يبني منزلًا) يجمعُ فيه أسرتَه وأبناءَه، ويستضيفَ أقاربَه وكل عزيز، فيكون بيت العُمر والهناء والسعادة، فجعل رغبته وجهده وماله ووقته، مطيَّة لما أراد ونوى، وما زال يبحث عن مكان مناسب، يتوفر فيه كل متطلبات الأسرة وضرورياتها، وما يحقق رفاهيتها واستقرارها، ونسي نفسه، وزهد في راحته، وأنفق وقته وجهده، ليرى الحلم حقيقة... فهنيئًا له بيته ونسأل الله أن يجعله بيت أُنسٍ وسكينةٍ ومودة.
ولكن عجبي ممن يريد (ابنًا مميزًا) ثم ينتظر أنْ يجود له الزمان بشاب أو شابة من صلبه، لم يبذل في تربيته جهدًا، ولم يكن له من وقته نصيبًا ولا من تفكيره حظًا، ولم يجُد بوقته في متابعته ومحاورته، وفهم عقله واحتياجاته، ولم يعطه أذنًا لسماع آهاته وآلامه.
فهل يعقل أنْ يقبل أحدُنا عندما يتقدم لوظيفة مرموقة -وما دونها- بدون مؤهلات وشهادات وخبرات؟!
فلنفكر معًا: ما هي مؤهلات الوالدين اللذين يرغبان بإنجاب الأطفال؟
أليس كل عمل ووظيفة نتقدم للحصول عليها، بحاجة إلى خبرات وشهادات ودورات؟
فما هي شهاداتنا التي تؤهلنا لأن نكون آباء وأمهات صالحين مصلحين؟
هل توفير الطعام والشراب ورفاهية الحياة يكفلون لنا ولدًا مميزًا؟
هل تحقيق كل الطلبات لأبنائنا دون تدقيق وتوجيه، يُخرج لنا أبناء وبنات صالحين وصالحات؟
هل ترك أطفالنا في رعاية الخادمات منذ نعومة أظفارهم، ثم قذفهم في مدارس غربية -بدعوى أنها تربي - لنا جيلًا مميزًا قادرًا على أعباء الحياة ومهامها؟
هل استشعرنا يومًا أنَّ أولادنا عمل أيدينا، وخلاصة ما نستثمره في الدنيا والآخرة، فإنْ أحسنا التربية والتوجيه، سعدنا وفرحنا ببرهم في الدنيا، وفي الآخرة هم العمل الذي لا ينقطع بعد الموت -بإذن الله-؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له ".
هل يُفرَّط عاقل بمثل هذا الجزاء العظيم؟ وهل تخذله نفسه للتفريط فيه؟
هل علمت أيها الأب وأنت أيتها الأم أنَّ أكثر السنوات التي يتعلم فيها الطفل هي الخمس الأولى التي يكون معظم أطفالنا -إلا من رحم الله- بين أيدي خادمات، نملِّكهن أعظمَ نِعم الله علينا، يزرعون فيهم ما يشاؤون من عقائد فاسدة لا تمت لعقيدة التوحيد الصافية، ويتعلموا أخلاقًا بعيدة عن الدين والمنهل النبوي الصافي، فضلًا عن إهمال مشاعرهم ورغبتهم بتواجد والديهم معهم في كل أوقاتهم، (وهذه حاجة نفسية للطفل أثبتتها الدراسات الحديثة).
يقول الدكتور/ مصطفى أبو السعد: "المربي ينطلق من قواعد ليبني… والتربية النفسية تقوم على مراعاة الحاجات الإنسانية واعتبارها في نفس الوقت نقطة انطلاق نحو البناء الأسلم ".
قد كان العرب -قبل الإسلام- تدرك نساءهن دورهن في تربية الأطفال، فهذه أمُّ سُليم الأنصاريَّة امرأة من بني الخزرج أسلمت عندما كانت الدَّعوة الإسلامية بالسِّر؛ حيث أتى عليها زوجها مالك بن النَّضر -وكان على الشرك- وقال لها: أصبوتِ؟ قالت لهُ: "لا، لقد آمنت"، فحاول أن يردَّها عن الدِّين الإسلامي فلم يقدر.
وكان طفلها أنس بن مالك -رضي الله عنه- في مرحلة الطفولة، فاهتمت بصغيرها وتنشئته على التوحيد، فجعلت تلقن ابنها أنسًا -وهو طفل- وتقول له: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه".
فيقول لها أبوه: لا تفسدي عليّ ابني!
فتقول: إني لا أفسده .
فأدركت هذه الأم أهمية التربية على العقيدة وشهادة التوحيد، وكان ابنها أنس بن مالك -رضي الله عنه- خادم النبي ﷺ، فهنيئًا لكِ يا أم أنس.
فانظر أخي الفاضل وأنتِ أختي الغالية إلى فطنة هذا الرجل الجاهلي، الذي لم يتلق دورات في التربية، ولكنه علم أنَّ هذا الطفل سيتأثر بما تمليه عليه أمه وهو طفل، فهل يكون هذا الرجل الجاهلي أعقل ممن تلقَّى العلم وحصل على شهادات ودورات وخبرات، ثم هو يلقي فلذة كبده إلى أحضان خادمات لم نعرف عنهن علم ولا تمسك حقيقي بالدين، ولا خبرات في التربية، ولا حتى علم في اللغة العربية! فأي داهية نلقي بها فلذات أكبادنا؟
وختامًا لنتأمل كلام ابن القيم -رحمه الله-: "فإذا كان وقت نطقهم فليلقنوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله -سبحانه- وتوحيده، وأنه -سبحانه- فوق عرشه ينظر إليهم ويسمع كلامهم وهو معهم أينما كانوا ".
ولكن... متى نلقِّن أبناءنا: "أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه"، ومتى نعلمهم أساسيات الدين؟! وفي هذا يقول الشاعر:
قد ينفعُ الأدبُ الأولادَ في صغرٍ *** وليس ينفعُهم من بعـده أدبُ
الغصـونُ إذا عـدلتها اعتدلت *** ولا يلينُ ولو لينتـهُ الخشب
فلنحافظ على فطرتهم التي فطرهم الله عليها، قال -تعالى-: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾ [سورة الروم].
والفطرة: هي الجبلة المهيأة التي ركبها الله -تعالى- في الإنسان من قدرته لتكون هادية له على معرفة الإيمان - وهذا يشمل أصول الإيمان والأخلاق .