كلٌّ منَّا في هذه الحياة يستطيع أن يختار من يكون، ومع من يكون، وإلى من ينتمي، ويستطيع أن ينسب سمعته إلى أي شخص يريد.
ألم يقل الشاعر:
لا تسل عن المرء بل سل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
أجل كل منا يستطيع أن ينسب نفسه لأهل الحق أو أهل الباطل، لأهل الحياء أو أهل الفجور، لأهل الطاعة أو أهل المعصية، وما شابه.
اليوم هذا الأمر بيده وبإرادته، ولكن سيأتي يوم لا يستطيع أن يختار، لأنَّه قد اختار اليوم، وعلى ما أراده اليوم يرسم طريق الغد.
فنحن في هذه الدنيا للابتلاء والاختبار والتمحيص، بين جهاد النفس وتهذيبها، أو اتباع الهوى، وطاعة الرحمن أو طاعة الشيطان، بين نور الحق أو ظلمات الباطل.
فإلى أيها تحب أن تنتسب؟ فاختر ما شئت، ولكن تنبَّه لقوله -تعالى-: ﴿مَّا كَانَ اللَّـهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴿١٧٩﴾ [سورة آل عمران].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: "أي لا بُدَّ أن يقدر سببًا من المحنة يظهر فيه وليه ويفتضح فيه عدوه، يعرف به المؤمن الصادق والمنافق الفاجر ".
فهو -سبحانه- يُقَدِّر الأسباب ليظهر كلٌّ منا على حقيقته، ويتميز الخبيث من الطيب، والطائع من العاصي، والمتبع من المبتدع.
وهذه الفتن للتمحيص والتمييز والاختبار، وهي كفيلة بإخراج ما حوته الصدور، فمن اتَّبع الحقَّ جمعه الله مع أهل الإيمان والتقوى وأولئك هم الفائزون، ومن اتَّبع الباطل جمعه الله مع أهل الضلال والفجور، ومن تذبذب فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فأولئك هم المنافقون الذين أعدَّ لهم الله -تعالى- الدرك الأسفل من النار -والعياذ بالله-.
ومن هذه الفتن التي أخرقتنا اليوم إلى النخاع، وسائل التواصل، فكم من سقط في أوحالها، وصار يتخبط في الضلالات والظلمات، ولو أنَّه التزم أهل الحق والإيمان، لكان في مصافهم في سفينة النجاة.
ولكن ما دام على وجه هذه البسيطة، فما زال في الأمر سعة وفسحة للاستدراك، فمن الآن، حدِّد هُوِيَّتك، وسر لوجهتك، واسع للالتحاق بأهل الطاعة والتقوى، والأصحاب الذين يأخذون بيدك لطريق النجاة.
قال الشافعي -رحمه الله-:
أحبُّ الصَّالحين ولسْتُ منهمْ *** لعلِّي أَنْ أَنَالَ بِهمْ شَفَاعَــــة
وَأَكْرَهُ مَنْ تِجَارَتهُ المَعَاصي *** وَلَوْ كُنَّا سواءً في البِضَاعة
واعلم أنَّ الساعة التي أنت فيها لا تعود، وقد لا يأتيك غيرها فاغتنمها، لأنَّ الدنيا ساعة، فاجعلها طاعة.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "إذا أشرق القلب بنور الطاعة أقبلت سحائب الخيرات إليه من كل ناحية، فينقل صاحبه من طاعة إلى طاعة ".
يقول البويصري -رحمه الله-:
وإذا حلَّتِ الهداية قلبًا *** نشطت للعبادة الأعضاءُ
فاستعن بالله وابدأ، وفقنا الله وإيَّاكم لما يحب ويرضى.