صناعة العظماء (3)

صناعة العظماء (3)

-- كوثر سامي عبد الرحيم التايه --

سابعًا: ربَّاهم على البذل والإنفاق:

ربَّاهم على البذل والإنفاق في سبيل الله، وجاءت الآيات القرآنية تحثُّ على البذل والإنفاق، وتثني على المنفقين والمتصدقين في سبيل الله، قال -تعالى-: ﴿َالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٩﴾ [سورة الحشر]،

لأنَّ في هذا روح الألفة والتعاون والود فتلين القلوب وتتآلف، ويجعل الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، لأنَّ حب الدنيا مهلكة، وكان أشد ما يخاف عليهم -صلوات ربِّي وسلامه عليه- أن تُفتح لهم الدنيا، فكان يربِّيهم على الفضائل، حريصًا عليهم من التنافس في الدنيا ومكاسبها، فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال رسول الله : "إذا فُتِحَت علَيكُم خزائنُ فارسَ والرُّومِ، أيُّ قومٍ أنتُمْ؟، قالَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ: نقولُ كما أمرَنا اللَّهُ، قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أو غيرَ ذلِكَ تتَنافسونَ، ثمَّ تَتحاسدونَ، ثمَّ تَتدابرونَ، ثمَّ تَتباغضونَ، أو نحوَ ذلِكَ، ثمَّ تَنطلقونَ في مساكينِ المُهاجرينَ، فتجعَلونَ بعضَهُم على رقابِ بعضٍ ".

وكان هو القدوة والمثل الأعلى في الإنفاق، فهو أجود من الريح المرسلة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "ما سُئِلَ علَى الإسْلَامِ شيئًا إلَّا أَعْطَاهُ، قالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فأعْطَاهُ غَنَمًا بيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إلى قَوْمِهِ، فَقالَ: يا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لا يَخْشَى الفَاقَةَ ".

وكان إنفاقه في رمضان أكثر، فعن عبدالله بن عباس -رضي الله عنه- قال:" كان رسولُ اللهِ أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ ".

ضرب صحابة رسول الله أروع الأمثلة في الإنفاق في سبيل الله وفعل الخيرات، وقد كان النبي قدوة ونبراسًا لهم، فتلقوا -رضوان الله عليهم- التوجيهات الربَّانية الحاثَّة على العطاء والتآلف فيما بينهم، بقلوب متلهفة ومشتاقة إلى الجنَّة، فتمثلوا الآيات القرآنية في حياتهم وأفعالهم، وكان هذا ظاهرًا في مواقف الدعوة النبوية للإنفاق في سبيل الله.

وكان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- من أغنياء الصحابة، وكان له في ميادين الإنفاق أبواب كثيرة، ومواقف ذكرتها كتب السيرة، والأحاديث النبوية في الثناء عليه -رضي الله عنه-، ومنها حفره لـ(بئر رومة)، قال الذهبي -رحمه الله-: "ولم ينفق أحد أعظم من نفقة عثمان -رضي الله عنه-".

وقال الزهري -رحمه الله-: "قد اشتهر -رضي الله عنه- بالكرم والإنفاق في سبيل الله".

ومن مواقفه -رضي الله عنه- المشهورة والمعروفة عنه: شراؤه لبئر رومة وجعله للمسلمين، فلما قدِم المهاجرون المدينة المنورة لم يستسيغوا ماءها، وكان بئر رومة من أعذبِ مياه الآبار في المدينة، فكانوا يستقون منه بالثمن ، فأرهقهم ذلك، فعندئذٍ حثَّ رسول الله أصحابه إلى شراء بئر رومة والتبرع به للمسلمين، ووعد على ذلك بعين في الجنة، فاشتراها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وجعلها وقْفًا للمسلمين فلمَّا حاصره الخوارج آخر زمان خلافته ، "أَشْرَفَ على صحابة رسول الله وقالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، ولَا أَنْشُدُ إلَّا أَصْحَابَ النبيِّ ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَسولَ اللَّهِ قالَ: مَن حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ، فَحَفَرْتُهَا؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّهُ قالَ: مَن جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ، فَجَهَّزْتُهُمْ؟ قالَ: فَصَدَّقُوهُ بما قالَ ".

تميَّز عملهم الخيري بالسرية في معظمه إيمانًا منهم بأنَّ خير الصدقة هي الصدقة الخفيَّة، والتي لا تعلم شمالهم ما أنفقت يمينهم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله : "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَدْلٌ، وشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ، ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، ورَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، اجْتَمعا عليه وتَفَرَّقَا عليه، ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وجَمَالٍ فَقالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ".

وفي ذلك تربية لأنفسهم على الإخلاص، حتى يكون العمل خالصًا لله ليس لأحد له منه حظ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي : "قالَ اللَّهُ -تَبارَكَ وتَعالَى-: أنا أغْنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فيه مَعِي غيرِي، تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ ".

وكانوا يبذلون من خيار الأموال وأنفسها، وكانت أموالهم حلالًا طيبًا، فجاءهم وعد الله -تعالى- بالبركة في الأموال والصحة والحال، وما عند الله خير وأبقى، وبشر بعضهم من رسول الله بقبول عطائهم، وبالجزاء الأخروي الذي ينتظرهم جرَّاء بذلهم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: "جاءَ عثمانُ إلى النَّبيِّ بألفِ دينارٍ قالَ الحسَنُ بنُ واقعٍ: وفي موضعٍ آخرَ من كتابي، في كمِّهِ حينَ جَهَّزَ جيشَ العُسرةِ فينثرَها في حجرِهِ. قالَ عبدُ الرَّحمنِ: فرأيتُ النَّبيَّ يقلِّبُها في حجرِهِ ويقولُ: ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليومِ مرَّتينِ ".

ومن لم يستطع منهم الإنفاق وعدهم الله -تعالى- بمثل جزاء من ينفق إن صدقت النوايا، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، "أنَّ النبيَّ كانَ في غَزَاةٍ، فَقالَ: إنَّ أَقْوَامًا بالمَدِينَةِ خَلْفَنَا، ما سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إلَّا وَهُمْ معنَا فِيهِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ " وهكذا الوعد لكافة أبناء الأمَّة الإسلامية.

ثامنًا: التعامل الذكي والناجح مع صاحب الخطأ:

دخل رسول الله قلوب أصحابه برفقه ولينه وحسن تعامله معهم، فما كان ليعنف أو يُخوِّف أو يفضح، بل يستر ويسامح وينصح، فأسَر قلوب أصحابه وأخذ بشغافها، وأصبح كل منهم يسعى ليسأله ويستفهمه ويشكو له ما أهمه وآلمه.

وانظروا كيف وصفه معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-: "بيْنَا أنَا أُصَلِّي مع رَسولِ اللهِ ، إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي القَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ، ما شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ علَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ ، فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي، قالَ: إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ أَوْ كما قالَ رَسولُ اللهِ قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي حَديثُ عَهْدٍ بجَاهِلِيَّةٍ، وقدْ جَاءَ اللَّهُ بالإِسْلَامِ، وإنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الكُهَّانَ، قالَ: فلا تَأْتِهِمْ قالَ: ومِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قالَ: ذَاكَ شيءٌ يَجِدُونَهُ في صُدُورِهِمْ، فلا يَصُدَّنَّهُمْ، قالَ ابنُ الصَّبَّاحِ: فلا يَصُدَّنَّكُمْ، قالَ قُلتُ: ومِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قالَ: كانَ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فمَن وافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ قالَ: وكَانَتْ لي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لي قِبَلَ أُحُدٍ والْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَومٍ فَإِذَا الذِّيبُ قدْ ذَهَبَ بشَاةٍ مِن غَنَمِهَا، وأَنَا رَجُلٌ مِن بَنِي آدَمَ، آسَفُ كما يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فأتَيْتُ رَسولَ اللهِ فَعَظَّمَ ذلكَ عَلَيَّ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفلا أُعْتِقُهَا؟ قالَ: ائْتِنِي بهَا فأتَيْتُهُ بهَا، فَقالَ لَهَا: أيْنَ اللَّهُ؟ قالَتْ: في السَّمَاءِ، قالَ: مَن أنَا؟ قالَتْ: أنْتَ رَسولُ اللهِ، قالَ: أعْتِقْهَا، فإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ".

فمعاوية -رضي الله عنه- لم يكن يعلم أنَّ الصلاة لا يصح فيها الكلام، والنبي حين وجهه وسأله، لم يذكر الفعل الذي فعله معاوية -رضي الله عنه-، ولم يستفسر، بل بيَّن الصواب، وبيان لما يجب أن يفعلَه في المرات القادمة، دون أن ينهره أو يلومه، ولم يؤذه بالكلام، فَلان قلبه -رضي الله عنه- للرسول الأعظم والمربِّي الأول ، وبات يسأله عن أشياء تخصه في أمور دينه وعقيدته.

واستخدم التعريض بصاحب الخطأ، لا التشهير والفضح، ليكون أقرب لقبول (صاحب الخطأ) -إذا لم يكن مصِّرًا ومعانِدًا-، وهو في الحقيقة من أهم ما كان النبي يُربِّي أصحابه عليه، فقد كان يعرض دائمًا لبعض الأخطاء، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم، إذا بلغَه عن الرجلِ الشيءَ، لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقولُ، ولكن يقولُ: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا ".