صناعة العظماء (4)

صناعة العظماء (4)

-- كوثر سامي عبد الرحيم التايه --

تاسعًا: عاش معهم الأب الحنون:

كان -عليه الصلاة والسلام- الأب الحنون، والأخ الشفيق، والصاحب الناصح، والحضن الدافئ، يتفقد الغائب ويسأل عن أصحابه، ويحنو على الصغير، ويعطف على المسكين، ويؤلِّف بين القلوب، ويجمع الشمل، ويعين صاحب الحاجة، وكان يرفق في أهل بيته، يساعدهم ويعاونهم، عن الأسود قال: "سَأَلْتُ عَائِشَةَ ما كانَ النبيُّ ﷺ يَصْنَعُ في بَيْتِهِ؟ قالَتْ: كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ ".

فاضت رحمته وشفقته على جميع أمته حتى قال : "مَن لمَ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا " [صححه الألباني].

عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كانَ النَّبيُّ أحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وكانَ لي أخٌ يُقَالُ له: أبو عُمَيْرٍ -قالَ: أحْسِبُهُ- فَطِيمًا، وكانَ إذَا جَاءَ قالَ: يا أبَا عُمَيْرٍ، ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ نُغَرٌ كانَ يَلْعَبُ به، فَرُبَّما حَضَرَ الصَّلَاةَ وهو في بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بالبِسَاطِ الذي تَحْتَهُ فيُكْنَسُ ويُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ ونَقُومُ خَلْفَهُ، فيُصَلِّي بنَا ".

عاشرًا: ربَّاهم على الصراحة والوضوح:

كان من الطبيعي بعد أن كان لهم الأب الحنون، وكان حكيمًا في معالجة الخطأ أن يكون هو صاحب سرهم، فلا يخفون عليه أمورهم، فهو ملجأهم إذا زلوا، أو أخطؤوا، كانت الصراحة والوضوح والاعتراف عادتهم وديدنهم، فكان لهم الناصح الأمين، والمربي العظيم، والأب الحنون، فهنيئًا لهم هذه الصحبة.

ويأتيه الشاب فيحدثه بما يفكر فيه من رغبة وشهوة إلى الزنا، فيعالجه بالطريقة الحكيمة والأسس السليمة، حتى قال عنه أصحابه ما رأيناه بعد ذلك يحدِّث نفسه بذلك.

وحسن الخلق تجاوز المرء عن الأدنى منه منزلة، الذي يستطيع عقابه، ومع هذا فإنَّ النبي ينبِّه إلى التجاوز وحسن الخلق، عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: "جاء رجلٌ إلى النبيِّ ، فقال: يا رسولَ اللهِ، كم نعفو عن الخادمِ؟ فصمَتَ، ثم أعادَ عليه الكلامَ، فصَمَتَ، فلما كان في الثالثةِ قال: اعفُوا عنه في كل يومٍ سبعين مرةً ". وكيف لا، وهو خلقه القرآن.

الحادي عشر: لم يهمل الثناء عليهم ومدحهم:

الكلمات الإيجابية لها دور كبير في تكوين شخصية إيجابية، وفيه إظهار الاستحسان لصانع الخير، وفيه دفع للأفضل، عن زارع بن عامر بن عبد القيس العبدي، "لما قدمنا المدينةَ، فجعلْنا نتبادرُ من رواحِلنا، فنقبِّل يدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ورجلَه، وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيبته فلبس ثوبيه، ثم أتى النبي فقال له: إن فيك خلَّتين يحبهما الله: الحلم والأناة. قال: يا رسول اللهِ! أنا أتخلّق بهما، أم الله جبلني عليهما؟ قال: بل الله جبلك عليهما. قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله ".

وعن رفاعة بن رافع قال: "جَاءَ جِبْرِيلُ إلى النَّبيِّ ، فَقالَ: ما تَعُدُّونَ أهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قالَ: مِن أفْضَلِ المُسْلِمِينَ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- قالَ: وكَذلكَ مَن شَهِدَ بَدْرًا مِنَ المَلَائِكَةِ. وعَنْ مُعَاذِ بنِ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ، وكانَ رِفَاعَةُ مِن أهْلِ بَدْرٍ، وكانَ رَافِعٌ مِن أهْلِ العَقَبَةِ، فَكانَ يقولُ لِابْنِهِ: ما يَسُرُّنِي أنِّي شَهِدْتُ بَدْرًا بالعَقَبَةِ. قالَ: سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبيَّ بهذا. (وفي روايةٍ): أنَّ مَلَكًا سَأَلَ النَّبيَّ ... نَحْوَهُ" .

وكان يتفاءل بالكلمة الطيبة، ويُغيِّر الاسم إذا لم يكن حسن المعنى، فعن المسيب بن حزن قال: "جَلَسْتُ إلى سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ، فَحدَّثَني: أنَّ جَدَّهُ حَزْنًا قَدِمَ علَى النبيِّ ﷺ فَقالَ: ما اسْمُكَ قالَ: اسْمِي حَزْنٌ، قالَ: بَلْ أنْتَ سَهْلٌ، قالَ: ما أنَا بمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أبِي، قالَ ابنُ المُسَيِّبِ: فَما زَالَتْ فِينَا الحُزُونَةُ بَعْدُ ".

والحَزْن بمعنى الصعوبة، فالأرض إذا استعصت زراعتها، قالوا: أرض حَزَنة، ولكن الصحابي الذي أراد الرسول أن يغير اسمه، أراد أن يبقى على ما سمَّاه والده، فاشتكى حفيده (سعيد) أنَّ في حياتهم من معنى الاسم، ولذلك كان رسول الله يتفاءل بالكلمة الطيبة، والتفاؤل هو حُسن الظن بالله، فعن عبد الله بن عباس قال: " كان رسولُ اللهِ يتفاءلُ ولا يَتَطَيَّرُ ويُعجبُهُ الاسمُ الحسنُ ".

كما سمَّى الرسول اسم (ميمونة)، إنما سماها بهذا الاسم النبي ، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كَانَ اسْمُ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بَرَّةُ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ : مَيْمُونَةَ"، وهو من اليُمن والبركة، وكان زواجها من النبي بعد فراغه من عمرة القضاء في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة.

وفي صلح الحديبية أرسلت قريش للنبي عدد من الرجال يتفاوضون معه على أن لا يدخل مكة هذا العام، وكان آخر من أرسلوه للتفاوض هو سهيل بن عمرو، وعن عِكْرِمَةَ: "أنَّه لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بنُ عَمْرٍو، قالَ النَّبيُّ : لقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِن أمْرِكُمْ".

فتفاءل النبي باسمه، وكان الصلح بين النبي وسهيل بن عمرو، وفي هذا دعوة للآباء والأمهات أن يُحسنوا اختيار أسماء أبنائهم، ينتقوا أفضل المعاني، فلكلٍ من اسمه نصيب -بإذن الله-.

ويبقى الحبيب محمد هو رحمة العالمين أرسله الله -عزَّ وجلَّ- ليخرج الناس من الظلمات بإذنه ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد، وهو الذي بعثه الله -عزَّ وجلَّ- مُتمِّمًا لمكارم الأخلاق يترجم فعله قوله، هو المرِّبي الأعظم، والمعلم الأول، الذي لا غنى للمربين عن سنته الطاهرة وهديه القويم، ليتحقق لنا جيل النصرة والتمكين، ربَّى صحابته الكرام فأحسن تربيتهم، فحملوا الدين، وبلَّغوا الأمانة وأدُّوا الرسالة، وكانوا خير القرون وأفضلهم وأتقاهم وأطهرهم لأنهم صناعة من أتقن صناعة الرجال محمد .

عن عمران بن الحصين -رضي الله عنه-: "خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ -قالَ عِمْرانُ: لا أدْرِي: ذَكَرَ ثِنْتَيْنِ أوْ ثَلاثًا بَعْدَ قَرْنِهِ- ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، يَنْذِرُونَ ولا يَفُونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُونَ، ويَشْهَدُونَ ولا يُسْتَشْهَدُونَ، ويَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ ".

والحديث عن الرسول المعلِّم والمربِّي تفنى فيه الأنفاس، وتنقضي فيه الأعمار، ولا يسعنا أن نوفي حقّه.