عندما كنَّا صغارًا درسنا أنَّ أركان الإسلام خمسة، وآخر هذه الأركان هو حج البيت، (حج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا)....
-- د. عيسى صالح الحر ---- مستشار شؤون شبابية ومرشد تربوي وأسري --عندما كنَّا صغارًا درسنا أنَّ أركان الإسلام خمسة، وآخر هذه الأركان هو حج البيت، (حج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا)، أي أنَّ الإنسان إن استطاع الحج فله أجر تنفيذ ركن من أركان الإسلام، وإن لم يستطع الحج لأي سبب أو عائق يمنعه فلا إثم عليه، والجميل في هذا أنَّ هذه الاستطاعة يقررها الدين، كالاستطاعة الدينية ومنها البلوغ للجنسين، ومحرم للنساء، كما يقررها العرف أو الدولة، كالاستطاعة المالية أو التكاليف التي تصرف على رحلة الحج، وهناك الاستطاعة الطبية كسلامة الجسد والحالة النفسية، وكذلك الاستطاعة الدولية كأمن الطريق وسهولة السفر في هذه الرحلة، وغيرها من أمور الاستطاعة التي لو لم تتوفر يسقط هذا الركن عن الإنسان المسلم دون أي إثم عليه.
هذه الرحمة الإلهية جعلتني أتفكر في رحلة الحج التي كررتها كثيرًا بحكم تعلقي بها، فكم من حاج رأيته وجلست معه، وقد يسر الله له سبل الحج من كل الجوانب، وقد قطع المسافات مسافرًا لإتمام الركن الخامس، ثم يجرح هذه العبادة بسلوك أو تصرف ربما يأثم عليه أو يفسد حجته، وقد كان قبلها معافًى من هذا الإثم!
فهذا حاج يشغل أيام الحج المعدودة بنميمة أو غيبة، وهو في أطهر بقاع الأرض وأحبها إلى الله -جلَّ جلاله-، وهذا حاج يتكبر على الحجَّاج الفقراء، ويتجاوز عليهم بقوله أو سلوكه أو تصرفاته، متناسيًا أنَّه أحوج منهم لرحمة الله، وثالث يظن الحج سفرة سياحية يستمتع فيها بالإطلالة، ويشغل وقته بشراء الهدايا والزيارات والتسوق، وهذا رابع ينشغل بالتصوير والتغريدات والبثِّ المباشر، ليُرضي متابعيه في وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يدرك أنَّه هنا لإرضاء الله -جلَّ جلاله- دون سواه، وهكذا تتكرر الحالات والمواقف والمشاهد من هنا وهناك، ليفقد من خلالها بعض الحجَّاج حقيقة الحج، وجوهر الركن الخامس الذي أراد لك الله أن تحقق كل الشروط قبل الحضور وقبل تأديته، فقط لتكون رحلتك الإيمانية لله، ولله وحده.
عندما تدخل مكة يجب أن تكرر على نفسك دائمًا: "أنا مجرد حاج"، نعم فأنا في هذا المكان المُقدَّس "مجرد حاج"، ولست سياسيًا لأتحدث عن السياسة وتشعباتها واختلافاتها، "أنا مجرد حاج"، ولست مفتيًا لأحرِّم وأحلِّل وأقول رأيي في خلاف أو اتفاق ديني أو مذهبي.
"أنا مجرد حاج"، لا أنتمي لجماعة ما، أو مذهب ما، أو فرقة ما، فأنا هنا أمثل ديني وعقيدتي وعلاقتي مع ربي مباشرة دون أي اتجاهات.
"أنا مجرد حاج" مسلم لا أحكم على الدول ولا أُقيمها، ولا أصف أهلها أو شعبها بأي وصف لا أقبله على نفسي، أو وصف أكره أن أقابل الله به.
"أنا مجرد حاج" عاصي أطلب التوبة والرحمة، وأن أعود من هذه الرحلة كيوم ولدتني أمي، فلا أصنف الناس إلى عاص أو مذنب أو تائب أو خاشع، فالله أعلم بهم وبما يخفون أو يعلنون.
"أنا مجرد حاج"، ربِّي سوف يسألني عن أعمالي وأفكاري، فلا علاقة لي بالحكم على الآخرين، أو تقييم سلوكهم أو أفكارهم، فالله أعلم بهم مني.
"أنا مجرد حاج"، احتسب جهدي ومشقتي ومعاناتي وكل ما أبذله من جهد ومال لله ولإرضائه وأن يتقبل مني عبادتي، ولا أنظر لأي تقصير قد يقع بقصد أو بدون قصد من الآخرين.
"أنا مجرد حاج" وسط ملايين الحضور الذين تتأملهم الملائكة وتسجِّل كل حركة وسكنة لهم، فكيف لي أن أميّز نفسي لأستحق العتق من النار، وأستحق المغفرة التي يشمل بها الله المسلمين في هذا الموقف العظيم.
"أنا مجرد حاج"، تركت خلفي أهلي ومالي وبيتي وراحتي من أجل الحصول على رحمة ربي ومغفرته، فهل أنشغل عنها بأمور ثانوية لا طائل من ورائها غير ضياع الوقت والأجر.
"أنا مجرد حاج"، فعاملني كما أنا، ولا تنظر أبدًا لجنسي أو جنسيتي أو لوني أو طولي أو أصلي أو فصلي أو شكلي، فكلها أمور لم تكن ضمن خياراتي ولم يستشرني بها أحد.
"أنا مجرد حاج"، فيا أخي تكرَّم عليّ بأن تكون أنت أيضًا "مجرد حاج" ليشملنا الله برحمته.