إذا كانت الليالي العشر الأخيرة من رمضان هي أفضل ليالي الدنيا، فإنَّ العشر الأوائل من ذي الحِجَّة هي أفضل أيام الدنيا....
-- د. أحمد عبد القادر الفرجابي ---- داعية إسلامي --إذا كانت الليالي العشر الأخيرة من رمضان هي أفضل ليالي الدنيا، فإنَّ العشر الأوائل من ذي الحِجَّة هي أفضل أيام الدنيا، وأولى الناس بمتابعة النفحات والمواسم المباركات هم نحن، أقصر الأمم أعمارًا، لكن ربّنا الكريم تفضَّل علينا ببقاع طاهرة يضاعف فيها أجور العاملين من الطائفين والعاكفين، وبأيام ومواسم مباركة ترتفع فيها قيمة أعمال العاملين، وبلحظات طيبة تقرب فيها إجابة طلبات السائلين، فهل من مشمِّر لحصد الأجر والفوز بالدرجات؟
فها هي أيام العشر قد أقبلت، وفيها يقول رسولنا -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ، يَعْنِى أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلاَ الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللَّهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيءٍ" [أخرجه البخاري].
وإذا كان نبينا -صلَّى الله عليه وسلَّم- قد حضَّ على العمل الصالح، فالفقه يقتضي معرفة أبواب الخيرات ودرجات الأعمال ومراتبها، والمتأمل يلاحظ أنَّ عبادة الوقت هي الذِكْر؛ بل إنَّ الذِكْر هو العبادة التي لأجلها شرعت الطاعات، وأعظم المصلين أجرًا هم أكثرهم لله ذِكْرًا، وأعظم الصائمين أجرًا أكثرهم لله ذِكْرًا، وأعظم الحُجَّاج أجرًا أكثرهم لله ذِكْرًا، وأعظم المتصدقين أجرًا أكثرهم لله ذِكْرًا، والأمر كما قال فاروق الأمة الملهم المُحَدَّث: "لقد ذهب ذِكْر اللَّه بالخير كله"، وقد قيل لابن عباس -رضي اللَّه عنه-: أي العمل أفضل؟ فقال: "ذِكْر اللَّهِ أكْبَر"، وقيل لسلمان -رضي الله عنه-: أي العمل أفضل؟ فقال للسائل: "أو ما تقرأ القرآن؟ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}".
وإذا كان الذِكْر بهذه المنزلة والرفعة، فما هو مفهوم الذِكْر؟ وكيف يكون الذِكْر للَّه؟ ذِكْر اللَّه ليس مجرد همهمات أو كلمات تتردد مع لهو القلب وغفلته، ولكن أكمل صور الذِكْر ما واطأ فيه القلب اللسان، فهنيئًا لمن مَلَك لسانًا ذاكرًا، وقلبًا بعظمة اللَّه شاهدًا، والحقيقة أنَّ أبواب الذِكْر واسعة، فَمِنْ ذِكْر اللَّه ذِكْره -سبحانه- عند ورود أمره، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون} [الجمعة: 9]، وذِكْر اللَّه يكون عند ورود نهيه، قال -تعالى-: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} [الأنعام: 68]، وذلك بأنْ تُغَيِّر المُنْكَر أو تَهجُر مجلس المُنْكَر، وذِكْر اللَّه يكون في الأحوال التي علَّمنا إياها رسولنا -صلَّى الله عليه وسلَّم-، إذا أكلنا، إذا شربنا، إذا نمنا، إذا استيقظنا، وتلك هي أذكار الأحوال في اليوم والليلة، وبأدائها يحصل الفرار من صفات أهل النفاق الذين لا يذكرون اللَّه إلا قليلًا، وذِكْر اللَّه يكون بتطبيق منهجه، قال -سبحانه-: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، كما أنَّ ذِكْر اللَّه -تعالى- يكون بمراقبته والإخلاص له -سبحانه- في سعي الإنسان في الحياة كلها، قال -تعالى-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، وبهذا يتضح شمول مفهوم الذِكْر، والسبب في رفعة مقام أهله، قال ربنا العظيم: {فَاذكُرُوني أَذكُركُم}، فأي رفعةٍ أعظم للذَاكِر من أنْ يذكره الرَّبُ الجليل -سبحانه-؟
والعاقل الفقيه يحرص على أنْ يكون له في كل من ميادين الطاعة سهم، بل من فقه التجارة مع الله -سبحانه- اغتنام مواسم الخيرات ولحظات المضاعفة للأجر، مع ضرورة اغتنام كل العمر، وخاصة ما تبقَّى لنا، والعبرة بالخواتيم.
فهنيئًا لمن حرص على الصيام، وخاصة صيام يوم عرفة، وليت من يعجز عن نوافل الصيام يعلم أنَّ نوافل الصلاة مقدمة حتى على الصيام، ونُنَبِّه إلى أهمية التنافس في الصدقات، وفى سائر الطاعات التي فيها النفع المتعدي، ومعرفة مراتب الطاعات من الأهمية بمكان، والتاجر الناجح يعرف البضائع التي ربحها أكثر، والعبادات تتفاضل بتفضيل الله أو رسوله لها، أو بكونها في وقتها، وقد يرتفع قدر الطاعة لعظيم نفعها للناس، أو لإخلاص صاحبها وصدقه مع الله، وبرّ الوالدين ربطه العظيم بطاعته، والرحم تعلقت بعرش الرحمن ولاذت به، واستعاذت من قاطعيها، فعلينا أنْ نتعرف على مراتب الأعمال، ونعلم أنَّ طلب العلم أفضل من كل نافلة، وفى مختتم هذه الخاطرة أُذكِّر نفسى وأخوتي باغتنام العشر، والحرص على الطاعات فيما تبقَّى من لحظات وأنفاس، وأسأل اللَّه أنْ يجعلنا جميعًا ممن طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم، وأنْ يرزقنا حُسن القصد وحُسن الفهم.