الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد، فكلما اقتربت أيام الحج، وتراءت في الأذهان صور الحجيج،....
-- الشيخ/ إبراهيم الحماحمي ---- عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر --الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد، فكلما اقتربت أيام الحج، وتراءت في الأذهان صور الحجيج، يعتصرنا الألم لحال هذه الأمة التي شرفنا الله -سبحانه- بالانتساب إليها؛ والتي أضحت فِرقًا وجماعات، وأحزابًا ورايات، في واقعٍ يندى له الجبين.
ألا نعتبر من مشهد الحَجِّ؟ من تلك الجموع التي جاءت من أقطارٍ شتى، بألسنةٍ مختلفة، وأجناسٍ متنوعة، وسرعان ما ينصهرون في بوتقة الحَجِّ؛ فلا نرى إلا زيًّا واحدًا، ولا نسمع إلا صوتًا واحدًا، يتحركون في زمنٍ واحد، لأداء مناسك واحدة!!!
بل الصورة أعمق من ذلك؛ فالعلاقة بين أهل الإيمان ضاربة بجذورها في أعماق الزمان والمكان، تربط أهل الحق بعضهم ببعض، وإنْ ناءت بهم الحقب والأوطان.
لقد مضى على هذا الطريق أجيال من الأنبياء والمرسلين والصالحين الذين قصَّ علينا ربنا طرفًا من حياتهم، ونماذج من هديهم، وأمرنا بالاقتداء بهم، قال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال -تعالى-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 6]، لتبقى تلك الوشيجة التليدة، والعلاقة الوطيدة، ولهذا قال -تعالى-، بعد ما ذكر عددًا من الأنبياء في سورة الأنبياء، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وفي سورة المؤمنون قال -تعالى-: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].
وقد كانت دعوة هؤلاء الأنبياء واحدة، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ" [أخرجه البخاري وأحمد].
وبهذه الصلة، وذلك الحق الذي يجمعنا سنشهد للأنبياء على الأمم يوم القيامة، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، في صحيح البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، يَا رَبِّ، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيَقُولُ: مَنْ شُهُودُكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ، فَيُجَاءُ بِكُمْ، فَتَشْهَدُونَ"، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، قَالَ: عَدْلًا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
وقد حرص النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنْ يُذكِّرنا في مشهد الحج -الذي يُجسِّد وحدتنا- بأنَّ أمتنا الواحدة كبيرة وقديمة، وأنَّ مناسكنا التي جمعتنا، جمعت الذين مضوا على الدرب قبلنا؛ ففي صحيح مسلم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ: «أَيُّ وَادٍ هَذَا؟» فَقَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلام- وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالتَّلْبِيَةِ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي» قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ، فَقَالَ: «أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟» قَالُوا: هَرْشَى -أَوْ لِفْتٌ- فَقَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا»، وفيه عن أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُهِلَّنَّ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا».
إننا أمة واحدة، ربّها واحد، ودينها واحد، توحدها عقيدة التوحيد، التي دعا إليها الرسل منذ زمن تليد، لكننا -للأسف- صرنا شراذم لا يؤبه لها، ننتقي ولاءنا، ونتفرق في جراحنا، فتمكَّن منَّا عدونا.
إننا أمة إنْ لم يجمعها الحق فرقتها الأهواء والبدع، وإنْ لم نعد إلى رشدنا فسيطول بنا المكث في غياهب التيه، فهل من مجيب؟: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وهل من مُدَّكر؟: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].